الفنان التشكيلي اليمني هاشم علي..قداسة للبسطاء والأرض
دراما مشهدية تفيض بالدهشة الجمالية
يتفق الجميع على عبقرية الفنان التشكيلي اليمني هاشم علي، رائد الفن التشكيلي اليمني والذي أقام أول معرض تشكيلي فني باليمن الشمالي بمدينة تعز، عام 1967 وساهم في تطوير الحركة التشكيلية اليمنية عبر فتحه مرسم للفن التشكيلي اليمني عام 1970 والذي كان مدرسة تشكيلية اليمنية محضة لها ملامحها وأسسها الفنية والجمالية والفلسفية وإلى يومنا هذا لم يتفرغ أحدا لدراستها والبحث في أعمال هذا الفنان الذي عاش حياته متقشفا ومتواضعها وبعيدا عن الأضواء، يبدو أيضا أنه تفرغ للرسم وتعليم الرسم في مختبره ولم يدون ويوثق رؤيته ومنهجه الفني في كتابات كونه كان يحب الرسم ويعيشه كحياة وليس مهنة ولا طلبا للمجد والشهرة.
البحث عن البسطاء وتصويرهم بدرجة عالية من الشعرية والروحانية
فارقنا هذا الفنان في نوفمبر 2009 لم يترك ثروة ولا حتى منزلا لعائلته وأبتعد عن المناصب الحكومية وإلى يومنا لا يوجد باليمن أي متحف للفنون التشكيلية ولم تبادر أي جهة للسعي وجمع ثروة تشكيلية يمنية مبعثرة ولعل بفضل مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المقالات المنشورة بصحف ومواقع ثقافية نتمكن من معرفة بعض الجوانب الفنية لهذا الفنان الإنسان الذي تهمل دولته حفظ منجزاته والأكثر من ذلك لم تهتم بعائلته التي تعاني الكثير من المشاكل.
تعالوا بنا للغوص في بعض أعماله التي تفوح منها عطر القداسة للبسطاء والأرض، فالإنسان كان نقطة إهتمام هاشم علي في كل مراحل تجاربة المتعددة والتي شهدت تحولات فكرية وفلسفية لكن البحث عن البسطاء وتصويرهم بدرجة عالية من الشعرية والروحانية ظلت منهجا ومرتكزا أساسيا وجوهريا لتجربة هاشم المدهشة.
يقول الشاعر القدير د. عبدالعزيز المقالح أن هاشم علي هو الفن التشكيلي في اليمن والفن التشكيلي في اليمن هو هاشم علي.
في كتابها “اليمن الذي شاهدت” تحدثت الكاتبةُ السويسرية لورنس ديونا زارت ووصفته بأن يقرأ ومثقف أكثر من عشرات الفنانين في أوروبا لكنه معزول في مكان لا يراه العالم ولا يمتلك الإمكانيات لينشر فنه عالميا.
دراما مشهدية
رسم هاشم علي وجوه الفلاحات بالحقول وبائعات البيض والخبز على الأرصفة والأسواق الشعبية البسيطة، رسم البسطاء وأصحاب المهن الشاقة أي الذين يكابدون المشقات وهم يبتسمون، صيادون ومزارعون، كما رسم القلاع والمناظر الطبيعية، رسم وجه اليمن بطيبته وبساطاته وكفاحه اليومي وقدم لنا دراما مشهدية تفيض بالدهشة الجمالية مكللة بقداسة روحية، فشخصيات هاشم مبتسمة ومتوهجة بلباسها البسيط ونظراتها المؤمنة المطمئنة كأنها أسعد مخلوقات الله على البسيطة.
اليوم بعد مضي مايقرب من 13 عاما على وفاته يدخل هاشم عالم النسيان وتضيع ثروته الفنية ونسي أولئك الذين بكوه في حفلات التأبين الرسمية تلك الدموع والقصائد والوعود ولم تتحرك أي جهة رسمية لتأسيس متحف هاشم حسب وعودهم ورعاية عائلته التي لم يترك لها هاشم لا بيت ولا ثروة، بحسب بعض التقارير التي نشرت في 2016 و2017 وحتى 2019 فإن عائلة الفنان تعيش في ظروف مادية صعبة وأن الكثير من لوحات الفنان تم بيعها بمبالغ زهيدة وربما وصلت ليد من لا يعرف قيمتها وربما أصبح الوقت متأخرا لجمع هذه الثروة الفنية الرائعة.
صوفية الفنان العظيم هاشم علي
يمكننا بسهولة أن ندرك صوفية الفنان العظيم هاشم علي حينما نتأمل أي لوحة بغض النظر عن تاريخها، كما يبدو من صوره بمرسمه وفي بعض المناسبات أنه واحد من البسطاء في ملبسه وهيئته ولم يتجه للرسميات أو يتاجر بعبقريته وظل بعيدا عن السلطة والتحزب والسياسة وتوافه الأمور، لعل هذا يكشف سر صفاء وروحانية لوحاته كأنها نفحة قديس لم يركض وراء المغريات وكرس حياته للتأمل ونثر عبق شعري بريشته الإنسانية التي كرمت الإنسان اليمني البسيط في الحقل والسوق والحارات الشعبية البسيطة.
ونحن نتحدث عن بساطة هاشم فلا يعني فقرها الفني بل على العكس تتعدد الدلالات والرموز وكل لوحة لها معانيها الميتافوريك وأبعادا روحانية لا تمثل واقعا سطحيا ولا بورتريه عادية، هنالك لوحات كثيرة تربط الشخصية بالأرض، فتتحول الشخصية مرآة للأرض والأرض مرآة للإنسان، تتميز كل لوحاتها بموسيقى ناعمة وهادئة كأنها أهازيج داخلية يظل يتردد صداها بكل عطره المدهش.
اللمسات الصوفية ليست تكلفا بل كانت حياة الفنان كناسك في محراب الفن، عاش حياته مؤمنا بالقناعة في مرسم متواضع بمدينة تعز وكان يرحب بزواره وطلبته فتحول إلى المعلم هكذا يصفه بعض طلبته الذين يذكرونه في مواسم ذكرى رحيله، كما يضطر في بعض الأحيان أن يتذكره بعض المسؤلين وكالعادة يطلقون الوعود والتصريحات الصحفية مع نشر صورهم ثم ينسون ويتناسون الوعود.
رسم هاشم علي، شخصياته وهي تغني وتعزف وتدخن وفي حالات حياتية متحركة وفي حالات تأملية وحظيت معظم لوحاته بشهرة وصلت للعالمية خلال مشاركاته في معارض عربية ودولية في السبعينات والثمانينات والتسعينات، لكن يبدو أن بعد ذلك لم يجد الدعم فهو كان يعرف أنه في بلد لا يعترف فيه المسؤولين بالفن الحقيقي الذي يحمل قيما فلسفية وجمالية، كرست ما يسمى وزارة الثقافة جهودها في تنفيذ اوبريتات كان يعشقها علي عبدالله صالح كونها تمجده كبطل خالد وأبدي وكانت تُصرف ميزانيات ضخمة ويشرف الرئيس علي عبدالله صالح على البروفات وبأعتقادي أن هاشم علي قد أدرك أنه إذا تقرب من تلك الفوضئ فهو سيخسر احترامه لنفسه لذلك فضل الفقر والإنحياز للفقراء والبسطاء ونأى بنفسه عن التفاهة والعهر والنفاق الذي كان يمارس بأسم الثقافة والفنون.
نالت مدينة تعز قداسة خاصة في أعمال هاشم علي بحكم سكنه واستقرارة بهذه المدينة لكننا سنجد روح اليمن الواحد في أعمال كثيرة لنماذج من صنعاء والحديدة وعدن وغيرها، هنالك مئات الأعمال يمكن مشاهدتها بسرعة خلال عدة تقارير تلفزيونية زارت بيته وعائلته العام الماضي ونرى بعض الإسكتشات ولوحات قمة في الجمال، هذه الثروة والقيم والمدرسة الإنسانية ماتزال تناشد وتصرخ كونها في مواجهة تهديدات حقيقية ويبدو أن صراخها قد يطول فاليمن البائس ضحية حروب وصراعات قذرة تغتال البسطاء وتثري تجار الحرب وباعة الأوطان