تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » “ناخلات القمح” لجوستاف كوربيه

“ناخلات القمح” لجوستاف كوربيه

 

الفرنسي جوستاف كوربيه (1819 – 1877)، فنان من طراز خاص، قاد الحركة الواقعية في الرسم، في القرن التاسع عشر، التزم برسم ما يمكن أن يراه فقط، ورفض التقاليد الأكاديمية والرومانسية للجيل السابق من الفنانين التشكيليين، كان استقلاله مهماً للفنانين اللاحقين، مثل الانطباعيين والتكعيبيين، احتل مكانة مهمة في فرنسا كمبتكر، وكفنان يرغب في استثمار أفكار اجتماعية جريئة من خلال أعماله.

كانت أعماله الأولى مستوحاة من كتابات فيكتور هوغو، وأيضا رواية «ليليا» لجورج ساند وغيرهما من الكتاب، لكنه سرعان ما تخلى عن التأثيرات الأدبية، واختار عوضاً عن ذلك أحداث الواقع موضوعاً لأعماله.
أقام كوربيه في مونبلييه مرتين ما بين 1854 و1857 واكتشف أثناءها جمال شمس المتوسط وطبيعته، وهو صاحب الجملة الشهيرة القائلة: «الجمال موجود في الطبيعة، ونصادفه في الأشكال الأكثر تنوعا للواقع».

شهدت فترة خمسينات القرن التاسع عشر، العديد من الأعمال التصويرية لكوربيه باستخدام نماذج من الناس العاديين، وقد اهتم بشكل خاص برسم بيئة المجتمع الزراعي أو الريفي، وكانت هذه الفترة خصبة لكوربيه حيث أنجز خلالها لوحات كثيرة تصور الفلاحين والمهمشين وعمال المزارع، ومن لوحاته في هذا الإطار نذكر: «فتيات القرية الشابات» (1852)، «المصارعون» (1853)، «السباحون» (1853)، «الدوار النائم» (1853)، و«ناخلات الحبوب» أو «ناخلات القمح» في (1854).. وهذه الأخيرة تعتبر من اللوحات المهمة لكوربيه والتي فرضت حضورها على المشاهدين، كما كتب عنها نقاد كثيرون، بما استغرقت فيه من تفاصيل، وجسد كوربيه من خلالها ملامح الواقعية البسيطة.

* طراز رومانسي
«ناخلات القمح» هي أبرز مثال على الواقعية عند كوربيه، وعلى عكس لوحاته ذات الطراز الرومانسي، فإن هذه اللوحة لا تركز على توظيف الخط والشكل، بقدر ما تعتني برسم التفاصيل ومن ذلك الجدران غير النظيفة، وإبراز الرسام للنظرة الملولة عند السيدة المستلقية في الركن، وكذلك الشعر الأشعث للفتى الفضولي.. وذلك راجع لاستخدام كوربيه لشخصيات حقيقية في لوحاته، حيث يقال إن الفتاتين في اللوحة هما شقيقتيه: زوي وجولييت، أما الصبي، فهو ابنه غير الشرعي، ديزيه، وقد عرضت اللوحة لأول مرة في عام 1855 في صالون باريس، ولاحقا تم اقتناء اللوحة من قبل متحف الفنون الجميلة في «نانت» في عام 1861، إلى جانب أعمال فنية لأسماء فنية شهيرة أخرى مثل: بيتر بول روبنز، وأنطوان واتو، وإدوارد بيرن جونز، وكاميل كورو، وجان أوغست دومينيك، وفاسيلي كاندينسكي.

* شخصيات
أنجز كوربيه «ناخلات القمح» في عام 1854، واللوحة كما قلنا تمثل مشهدا حيا من حياة العمل الزراعي خاصة في مدينة أورنان، وهو موطن الفنان، وكانت مثالا ساطعا على اهتمامه بشخصيات المجتمع الريفي من عمال وخدم وفلاحين، يمثلون الطبقة الدنيا في عصره، وهم يمارسون حياتهم اليومية، في هذا المجتمع الذي تم تجاهله لفترة طويلة في عالم الفن الفرنسي.
تلتقط اللوحة الحرف الريفية في أفضل حالاتها، حيث كانت الوسائل التقليدية لهذه الحرف هي السائدة في زمنه، ومن جهة أخرى، فإن التدقيق في اللوحة كما يبرز أكثر من ناقد، تظهر تطور عملية نخل القمح، بالنظر إلى الفتاة المستلقية، التي تبدو متثاقلة ومنهكة، وكأنها شبه نائمة، في حين تبرز الفتاة في الوسط أكثر حيوية ونشاطا، وهي تستخدم وسيلة أكثر تقدما في نخل القمح وأكثر إنتاجا، حيث تلعب تقنية الرسم دورا في إبراز حركة الفتاة من خلال جسدها الذي يدور بطريقة لولبية، وتبدو أكثر دينامية مع ردائها الأحمر.

* الواقعية
في تأكيد كوربيه على رسم شقيقتيه في «ناخلات القمح» ثمة رابط رابط واقعي واضح، فرسوماته في هذا الإطار تكتسب أهمية خاصة، كون النماذج في مجملها هم من العائلة أو الأصدقاء أو العمال الذين كان يعرفهم عن كثب، وقد فرضت اللوحة حضورها على المشاهدين، فالفتاتان منهمكتان في العمل، باستثناء الصبي الفضولي وباستثناء القط (النائم). في هذه اللوحة أبدع كوربيه صورة للمرأة كعاملة، وكأنها منقادة فقط للعمل الريفي الذي تمارسه، كما في غيرها من رسومات الفنانين الواقعيين المعاصرين لكوربيه مثل: بريتون وميليت.

* رمز
عززت رحلات جوستاف كوربيه إلى هولندا وبلجيكا بين 1846-1847 اعتقاده بأنه من الرسامين الذين يجب أن يصوروا الحياة من حولهم، كما فعل رامبرانت، وهالز، وغيرهما من الفنانين الهولنديين الكبار، وقد حصل على تأييد شريحة كبيرة من الكتاب والنقاد خاصة الشباب، والرومانسيين الجدد والواقعيين، ولا سيما شامبفليوري (1821 – 1889) و بيير جوزيف برودون (1809 – 1865).
وخلال تلك الفترة الخصبة من حياته أصبح رمزا فنيا يعتد بآرائه في الفن وفي الثقافة، كما صارت أعماله حاضرة بكثافة في معظم المتاحف الفرنسية والأوربية.

* تقنية
في سعيه لتصوير البيئة البسيطة، مال كوربيه إلى إغناء رسوماته بأفكار وإيحاءات جعلته واحداً من كبار فناني الواقعية في زمنه، ومن ذلك طريقته في استخدام اللون ما بين الخشونة والنعومة والعفوية، تبعاً لقسوة الحياة أو بساطتها.
ازداد اهتمام الجمهور بواقعية كوربيه، هذا الذي كان على الدوام مثيراً للجدل، ففي 1850 عرض لوحتين من أهم أعماله «جنازة أورنان»، و«كسارة الحجارة» وصورت الأولى الفلاحين في الجنازة بحجمهم الطبيعي، وهم الذين أصبحوا لاحقاً قوة سياسية مهمة.
وهي اللوحة التي وصفها كوربيه بنفسه وقال «كان الدفن في أورنان في الواقع دفناً للرومانسية نحو تلك الواقعية التي تستلهم توترات الحياة بما فيها من فوضى سياسية»، وقد اغتنم كوربيه ذلك كله ليكتسب جمهوراً عريضاً التفت إلى أفكاره الديمقراطية والتحررية من خلال عدة مقالات وأطروحات فكرية وسياسية كتبها.