تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » شاب يمني يسعى لحفظ وتطوير فن غنائي تقليدي

شاب يمني يسعى لحفظ وتطوير فن غنائي تقليدي

محمود الهندي.. مؤلف وموزع موسيقي

 

منير بن وبر*

تمثل فنون الغناء والموسيقى وفنون الأداء جزءاً أصيلاً من ثقافة أهل حضرموت، جنوب شرق اليمن. فبالنسبة إليهم فإن الموسيقى أكثر بكثير من مجرد لحن جذاب؛ إنها تعبير عن الهوية والمعتقدات والتصورات، ووسيلة لتقوية الروابط الثقافية والاحتفاء بالصوت والكلمات التي تعبِّر عن جوانب مختلفة من الثقافة. يتيح الغناء للناس مشاركة آلامهم وسعادتهم والقصص التي لا يمكن وصفها بالكلمات.

لكن في الوقت الحاضر يشعر البعض بأن بعض الفنون ترزح تحت تهديد النسيان وربما الاندثار تماماً، ويرون أنه من المهم جداً معالجة تلك التهديدات؛ لإبقاء الشعور بالهوية والمجتمع حياً. من بين أولئك الأشخاص، المؤلف والموزع الموسيقي محمود الهندي، الذي يسعى إلى صون وتطوير أحد فنون الغناء والأداء في حضرموت، ويُسمى “نعيش البقّارة”.

يعتقد محمود الهندي أن هناك ما هو أكثر من مجرد الصوت في الموسيقى والغناء؛ تعد الموسيقى تعبيراً عن الثقافة، وبالتالي من المهم صون الفنون الغنائية والموسيقى التراثية. كما أن هذه الفنون لا تربطنا بماضينا فحسب، بل تقدم لنا -أيضاً- طريقة للتعبير عن أنفسنا في الوقت الحاضر؛ لذلك يمكن أن يكون المزج بين التراث والحداثة خلطة جيدة لتعزيز ونشر وصون التراث.

في حوار خاص مع “كيوبوست”، يقول محمود الهندي: “الأهم هو التوثيق والتحديث؛ لكن سنبدأ أولاً بالتوثيق، من ناحية الصوت وطريقة الأداء والألحان وبعض الكلمات، ثم تسجيلها وتحديثها من خلال إدخال بعض الآلات الموسيقية وإضافة بعض الجمل الموسيقية والألحان التي لا تفسد روح الموروث”.

تتميز رقصة “نعيش البقّارة” بالعديد من الخصائص التي تجعلها فريدة حقاً؛ أبرز تلك الخصائص هو “النعيش”، أي تحريك الشعر يمنة ويسرة. يُعد “النعيش” فناً يُمارس بشكل أساسي من قِبل النساء؛ لكنه ليس حصراً عليهن، مثل ما قد يتصور الكثير من الناس، بل يمكن لمؤدي رقصة “نعيش البقّارة” إطالة شعرهم و”النعيش” رغم أن هذه الرقصة خاصة بالرجال، ولا يُعد هذا تشبهاً مرفوضاً بالنساء عند الغالبية العظمى من الناس. ينتشر “النعيش” -كما يُطلق عليه في حضرموت- في عدد من الدول العربية، وتشتهر النساء خصوصاً بأدائه.

لا يسعى محمود الهندي إلى تسجيل فن الغناء المصاحب لرقصة “نعيش البقّارة” وتطويره فقط، بل يطمح أيضاً إلى تقديم هذه الفنون من خلال المساهمة في إقامة فعاليات مختلفة تبرز هذا التراث بشكله الحقيقي؛ بما في ذلك اللبس التقليدي و”النعيش”.

يؤمن الهندي بأن تطوير فنون الغناء والموسيقى التراثية مهم لأسباب عديدة، فهي شكل من أشكال التواصل؛ عندما يغني الناس معاً يمكنهم مشاركة مشاعرهم وخبراتهم مع بعضهم. بالنسبة إلى الكثير من الناس، يعد الغناء والعزف على الموسيقى التقليدية وسيلة للترابط مع أسلافهم وثقافتهم. ناهيك بما يحدثه ذلك التواصل من شعور بالانتماء إلى المجتمع؛ وهو أمر مهم بشكل خاص في أوقات النزاع أو الانقسام.

إضافة إلى كل ذلك، فإن حب هذا الفن والاستمتاع بالكلمات والألحان والإيقاعات المميزة لـ”نعيش البقّارة” هما أول دوافع محمود، كما يقول في حواره مع “كيوبوست”.

فن مهدد بالاندثار

يعيش فن “نعيش البقّارة” حالة من التراجع في مجتمع حضرموت؛ وهو ما يقلق محمود الهندي ويزيده إصراراً على تحمل عناء مشروع يهدف إلى صون هذا الفن وضمان استمراريته.

تنتشر رقصة “نعيش البقّارة” في تريم بمحافظة حضرموت. ويُقال إنها تُنسب إلى فئة من الناس تعمل في حراثة الأرض تُسمى “البقّارة”. لفترة طويلة من الزمن، بقيت رقصة “نعيش البقّارة” مرتبطة بتلك الفئة، وسمة مميزة لها، ولم تنتشر في كثير من المناطق؛ لكن ظهرت مؤخراً أعداد متزايدة من الأشخاص من خارج “البقّارة” ترغب في ممارسة الرقصة.

إن تفرُّد فن “نعيش البقّارة” والتحديات التي تواجه قدرته على البقاء يُعدان تحدياً بالنسبة إلى محمود الهندي، ومع ذلك فإن الإعجاب بهذا الفن يبقيه مُصراً على صونه.

في حديثه مع “كيوبوست” يقول محمود: “لا يدخل في هذه الرقصة أي نوع من أنواع الآلات الموسيقية”، وبدلاً من ذلك، يتم الاعتماد كلياً على الإيقاع الناجم عن ضرب الأرجل بالأرض وضرب أكف الأيدي بعضها ببعض.

من الشروط المهمة في هذا الفن التراثي أن يكون المغني ذا صوت قوي؛ حتى يتمكَّن من إسماع الجمهور، والأمر نفسه بالنسبة إلى الجوقة. من المهم أيضاً أداء الرقصة في ساحة واسعة، وعلى أرض ممهدة؛ حتى يتمكن الراقصون من ضرب الأرض وعزف الإيقاع.

تتميز الألحان في “نعيش البقّارة” بالقصر والبساطة؛ بحيث تتيح للراقصين، وهم الإيقاعيون أنفسهم في هذه الحالة، أداء الرقص والإيقاع و”النعيش”.

يقول محمود: “تتميز الأغنية في (نعيش البقّارة) بتعدد الألحان، كما أن الزمن الإيقاعي المكرر في الرقصة يتميز باختلاف أسلوبه بعد كل فترة زمنية؛ مما يعطي الرقصة روحاً وحيوية”.

موضوعات الأبيات الشعرية كذلك منوعة؛ يمكن أن يتم تناول موضوعات اجتماعية أو دينية أو غزل أو أمثال وحكم أو دعاء. من بين الأبيات المشهورة التي يتم ترديدها مثلاً:

من بغى العلم يقرأ

في الزبد والسفينة

عُلمة الناس الأخيار

و”الزبد” و”السفينة” هما اختصاران لكتابَين فقهيَّين شهيرَين في حضرموت. وتدل كلمات هذا الشعر على الدور الكبير للفنون الثقافية في التعبير عن تصورات واتجاهات وأفكار المجتمع؛ بما في ذلك مدى حبهم للعلم والنصح فيه، وليس اقتصار الفنون على التسلية والغزل والحب فقط كما قد يتوهم البعض.

مشروع طموح

بشكل عام، هناك العديد من الوسائل التي يمكن اتخاذها للحفاظ على الموروث الثقافي؛ مثل تشجيع المبادرات التراثية، والتوثيق والأرشيف، وإشراك الجيل الحديث، ودعم البحث، والدعوة إلى السياسات التي تحمي التراث.

يركز محمود الهندي في مشروعه -حالياً- على التوثيق الرقمي لفن الغناء في “نعيش البقّارة” في حضرموت، من خلال تسجيل الألحان والكلمات والإيقاعات بطريقة احترافية، ومزجها بالموسيقى الحديثة.

 

لكن كيف سيتقبل الناس تراثهم المحدَّث؟ في إجابته عن هذا التساؤل أشار محمود إلى أن الناس سوف ينقسمون إلى فريقَين؛ الأول سيتقبل ويعجب بالتحديث، أما الفريق الثاني فلن يقبل بالتحديث، بل سيعتبر ذلك “إفساداً” للتراث؛ لكن الجيل الصاعد، حسب محمود، سوف يستمتع بذلك؛ لأن هذا الجيل مشبع بالأسلوب الفني الحديث، وبالتالي سيكون من الممتع سماع التراث في قالب عصري.

يشير محمود إلى نقطة أخرى في صالحه -أيضاً- وهي أن التراث يتطور بمرور الزمن دون أن يلاحظه الأفراد؛ لأن ذلك التطور يتم خلال فترات زمنية طويلة، ويقبله المجتمع تماشياً مع تطور العصر. وضرب مثالاً على ذلك بآلة “الطاسة”، وهي آلة إيقاعية كانت تُصنع من الفخّار، ثم صُنعت من المعدن. لم يتقبل أحد ذلك في البداية بحجة أن صوت الإيقاع مختلف؛ لكن بمرور الزمن وإثبات صعوبة الاستمرار في صناعتها بالفخار، تقبَّل الناس الآلة المحدثة.

يتفاءل محمود بأن يؤدي مشروعه إلى نشر التراث الغنائي الحضرمي على أوسع نطاق ممكن، وهو يشعر أن من واجبه المساهمة في ذلك؛ ليس كموسيقي فقط؛ بل كشخص متذوق للفن عاشق له.

 

من ناحية مهمة أخرى، فإن توثيق وتطوير الفنون التراثية يساعدان محمود -كمؤلف وموزع موسيقي- على تقديم إنتاجات موسيقية مميزة. يقول محمود إنه يلقى إشادة كبيرة عندما يمزج روح التراث مع الموسيقى الحديثة في أعماله، ويشعر بأن الجمهور متلهف لسماع هذا الخلط الموسيقي. هذا الخلط يجعل العمل الموسيقي يبرز كفن وهوية تميزه عن الأعمال الأخرى.

هناك العديد من الأسباب التي تدفعنا للتفكير ملياً في أهمية تطوير فنون الغناء والموسيقى التراثية؛ إذ إن ذلك يسهم في الحفاظ على التراث الثقافي وضمان بقاء هذه التقاليد على قيد الحياة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون تطوير فنون الغناء والموسيقى التراثية طريقة رائعة لبناء روح المجتمع والشعور بالفخر. عندما يجتمع الناس للغناء وتأليف الموسيقى، يمكن أن يخلق ذلك إحساساً قوياً بالوحدة والتواصل، ناهيك بالمتعة الناتجة عن الشعور بالتضامن وإسعاد الناس.

باحث في العلاقات الدولية وشؤون اليمن والخليج*

المصدر/ موقع كيو بوست