تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » «الضابط والفتاة الضاحكة».. الفن يمنحنا لحظة سعادة

«الضابط والفتاة الضاحكة».. الفن يمنحنا لحظة سعادة

 

يقدم الرسام الهولندي يوهانس فيرمير «1632 1675»، ممارسات وابتكارات فنية غاية في الروعة والجمال، وهو من فناني الفترة الباروكية، ويعد من أكبر مبدعي القرن ال17، في أوروبا، كان متخصصاً في رسم المشاهد الداخلية المنزلية لحياة الطبقة الوسطى، وعلى الرغم من شهرته اللاحقة، فإنه عاش فقيراً، فقد ترك زوجته وأطفاله غارقين في الديون عند وفاته، وربما يعود سبب ذلك لإنتاجه عدداً قليلاً نسبياً من اللوحات الزيتية؛ حيث عمل فيرمير ببطء واهتمام شديدين، وكثيراً ما كان يستخدم الأصباغ باهظة الثمن. اشتُهر بشكل خاص بمعالجته الفريدة، واستخدامه للضوء في أعماله.

عاش فيرمير فترة نجاح مقدر على المستوى المحلي في حياته أثناء فترة تواجده في دلفت ولاهاي في هولندا، لكن شهرته المتواضعة أفسحت مجالاً للغموض بعد وفاته؛ حيث لم يُذكر إلا بالكاد في كتاب لأرنولد هوبراكن في القرن السابع عشر، لكن فيرمير اكتُشف من قبل غوستاف فريدريك وثيوفل برغر، عندما نشرا مقالاً يحتوي على 66 صورة لفيرمير على الرغم من أن 34 لوحة فقط تُنسب إليه اليوم، ومنذ ذلك الوقت، اتسعت شهرة فيرمير ليصبح معروفاً بصفته واحداً من أعظم الرسامين في العصر الذهبي الهولندي، لم يسافر هذا الفنان إلى الخارج قط، وكذلك فعل العديد من الفنانين الهولنديين في العصر الذهبي أمثال رامبرانت وفرانز هالزن، تم تناول حياته مؤخراً في فيلم سينمائي يحمل اسمه.

لحظات خاصة

لوحة «الضابط والفتاة الضاحكة» تعد من أشهر أعمال فيرمير على الإطلاق، قام برسمها بألوان الزيت على القماش في عام 1657؛ حيث وجدت شعبية كبيرة، ويتضح في هذا العمل، أسلوب الفنان المميز في التعامل مع الإضاءة، وتوظيفها في مشهد العمل؛ حيث أظهر فيرمير في هذا المجال براعة كبيرة كان لها تأثيرها في تاريخ الفنون، كما تنتمي اللوحة إلى منهجية ورؤية الفنان في تصويره للحياة الواقعية من البيئة المحيطة، ورسم المنازل والبيوت، خاصة الطبقات البرجوازية والثرية، ومن الواضح أن جميع تلك المشهديات في لوحاته جرت في غرفتين صغيرتين ضمن بيته في دلفت؛ إذ يظهر نفس الأثاث والديكورات في ترتيبات مختلفة، وكثيراً ما صور نفس الأشخاص، وكان معظمهم من النساء؛ حيث كان مأخوذاً بسحر طبقة الأغنياء، وأسلوب عيشهم، وتقاليدهم الحياتية، وهذه اللوحة تعبر عن تلك اللحظات الخاصة في حياة أفراد الطبقة البرجوازية التي ينتمي إليها الفنان؛ حيث إن اللوحة تُشعر المشاهد بالراحة والسعادة.

«الضابط والفتاة الضاحكة».. الفن يمنحنا لحظة سعادة

في مشهد هذه اللوحة، يظهر جندي بزي عسكري باللون الأحمر، ويرتدي قبعة كبيرة، وهو يجلس وظهره جهة المشاهد، ويتحدث إلى فتاة جميلة تبتسم، وهي تضع على رأسها خماراً وترتدي فستاناً طويلاً بدرجات من اللون الأصفر، وتمسك بيدها كوباً من الماء، بينما أشعة الشمس الساطعة، تغمر وجهها الذي يزيد ألقاً مع تلك الابتسامة الساحرة، وفي الخلفية تظهر خريطة كبيرة؛ حيث اشتهر الفنان برسم هذا النوع من الخرائط وتظهر الخرائط كثيراً في أعماله الفنية الأخرى، إضافة إلى العديد من العناصر الأخرى، بينما يتسلل ضوء قادم من الجانب الأيسر من اللوحة من النافذة المفتوحة، وتظهر في هذه اللوحة براعة الفنان في استخدام وتوزيع الألوان بدرجاتها المختلفة مع ضربات الفرشاة، وتوظيف الإضاءة بصورة مبتكرة؛ بحيث تبدو الصورة حقيقية تماماً.

تفاصيل

ويبدو واضحاً من خلال المشهد ووضعية الجلوس، أن الشخصية الرئيسية في اللوحة هي المرأة الباسمة، ويشير النقاد ومؤرخو الفنون إلى أن هذه المرأة شديدة الشبه بزوجة فيرمير التي تدعى كاثرينا بولنز، والتي يعتقد أنها كانت نموذج فيرمير في العديد من لوحاته، وأشار عدد من مؤرخي الفن، مستعينين بالأشعة السينية إلى أن فيرمير كان يخطط لرسم المرأة مع ياقة بيضاء كبيرة، والتي كان من شأنها أن تخفي الكثير من فستانها الأصفر، كذلك تم تمديد حجاب أو قبعة الفتاة لاحقاً، لتغطية كل شعرها، من أجل لفت الانتباه إلى وجهها وتعبيراتها، والواقع أن هذا الفستان الأصفر قد ظهر بصورة لافتة في العديد من لوحات فيرمير الأخرى، ويلاحظ كذلك أن المرأة ترتدي أيضاً مئزراً أزرق فوق فستانها، لكنه مخفي في الظل الذي تضيفه الطاولة؛ حيث كان المئزر من الملابس الشائعة في ذلك الوقت، ويتم ارتداؤه في البيوت، وقد فسر مؤرخو الفن هذا على أنه يعني أن الضابط فاجأ المرأة بزيارة مرتجلة خلال مهامها الصباحية ولم تكن تتوقعها، الأمر الذي جعلها ترتدي نوعين من الملابس، غير أن من الواضح بصورة عامة أن الفتاة تنتمي إلى الطبقة الثرية.

أما الشخص الآخر، وهو الضابط فمن الواضح أنه ينتمي إلى الخيالة بزيهم المعروف في ذلك الوقت، مع تلك القبعة الكبيرة التي يبدو أنها باهظة الثمن، فهي واسعة الحواف ومصنوعة من جلد حيوان القندس المقاوم للبرد والثلج والأجواء الماطرة، ومن الواضح أن القبعة بجلدها الفاخر قد تم استيرادها من الخارج، ويشير النقاد إلى أن اللون الأحمر في زي الضابط يرتبط بالقوة والعاطفة، ما يضفي على اللوحة مزاجاً ورونقاً عاطفياً، ويتم تحديد رتبة هذا الشخص كضابط من خلال الوشاح الأسود الذي يرتديه، ولعل طريقة جلوسه تلك؛ تمنح مشهد اللوحة العام نوعاً من الدراما والغموض، وتلك أسلوبية خاصة اشتهر بها الفنان، كما عُرف بها كذلك الفنان الشهير كارافاجيو، وربما تعلمها منه فيرمير.

وتحدث النقاد كثيراً عن النافذة التي تظهر في مشهد اللوحة، ودائماً ما يتم توظيفها من قبل الفنان في العديد من الأعمال الأخرى، فهي تشبه تلك الموجودة في لوحة «فتاة تقرأ رسالة عند النافذة»، و«ساقية الحليب»، والعديد من اللوحات التي رسمها الفنان، لكن يحتوي الزجاج الموجود في نافذة هذا العمل تحديداً على العديد من الاختلافات في الألوان، ما يدل على دقة فيرمير في تفاصيل هذه اللوحة، ويبدو جلياً أن الضوء الساطع الذي يغمر أجزاء من الغرفة، يتسلل عبر تلك النافذة، بينما لا يمكن ملاحظة أي مشهد خارجي؛ حيث لا يسمح فيرمير للمشاهد أبداً برؤية العالم الخارجي، وتلك أيضاً من أساليبه المتبعة في الرسم، ولعله يريد من وراء ذلك أن يكون كل تركيز المشاهد على المشهد الذي أمامه بصورة مباشرة، ولا يتعداه إلى غيره، وحتى داخل اللوحة، فإن فيرمير يصنع عالمين، أحدهما أساسي والآخر هامشي، ويقوم عبر لعبة الإضاءة والألوان بالتركيز على المشهد الرئيسي في حين يقبع الهامشي في الظل، وقد كشف اختبار الألوان الذي أجراه الخبير دبليو كوهين استخدام فيرمير أصباغاً نموذجية من عصر الباروك؛ مثل: صبغة المغرة، والخضاب، واللازورد، والأزوريت، وغير ذلك من أنواع الأصباغ الأصلية والقوية.

عدّت اللوحة إحدى الأيقونات الفنية الخالدة؛ حيث تمتعت بشعبية كبيرة، وتناولها النقاد ومؤرخو الفنون كثيراً، وهي الآن واحدة من ثلاث لوحات لفيرمير في مجموعة متحف «فريك» في نيويورك.