تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الرسامة جورجيا أوكيف ظلت تنطلق من الصفر لبلوغ الجوهر

الرسامة جورجيا أوكيف ظلت تنطلق من الصفر لبلوغ الجوهر

الرسامة جورجيا أوكيف ظلت تنطلق من الصفر لبلوغ الجوهر

 

في ربيع 1946، أقام “متحف نيويورك للفن الحديث” (MoMA) أول معرض فردي لفنانة. المعرض كان من نصيب الرسامة الأميركية جورجيا أوكيف (1887 ــ 1986)، المرأة الوحيدة التي كانت تُعرض أعمالها بانتظام في هذه المدينة منذ ثلاثة عقود، بفضل تاجر الفن والمصوّر الفوتوغرافي ألفرد ستيغليتز، الذي كان أيضاً عشيقها، ثم زوجها.

نجاح أوكيف يعود إلى ترويج ستيغليتز لفنها في غاليري “291” الشهيرة التي كان يملكها ويديرها، وإلى قراءته الخاصة للوحاتها المشهدية والزهرية كتمثلات لإروسية المرأة ورغباتها المكبوتة. نجاح مستحَق، ومع ذلك، لم يعرها المتحف المذكور اهتماماً كبيراً بعد المعرض الاستعادي الذي نظّمه لها. والسبب؟ طغيان موجة التعبيرية المجرّدة على المشهد الفني في نيويورك بعد الحرب العالمية الثانية، ثم موجة الـ “بوب آرت”، فموجات أخرى لاحقة، لكن من دون أن يشكّل ذلك مبرراً مقنعاً لهذا الإهمال.

ولكن لحسن الحظ، الأمور تتغيّر. وهذا التغيير يعود اليوم بأوكيف إلى هذا المتحف حيث يمكننا تأمل 120 رسماً على ورق وثماني لوحات تعود إلى مراحل مختلفة من عملها. معرض يهدف إلى إظهار ثقة المسؤولين عن هذا المتحف بحداثة أوكيف، عبر تسليطهم الضوء على نزعتها إلى معالجة الموضوعات نفسها إلى ما لا نهاية: المناظر الطبيعة، الزهور، وديان غرب تكساس، البورتريهات والعري النسائي. أعمال يطبعها تكرار خصب، وأنجزتها أوكيف بالفحم أو قلم الرصاص أو الألوان المائية أو مادة الباستيل.

تأمل وتجريد

وفعلاً، طوال مسيرتها الإبداعية، أعادت هذه العملاقة النظر في موضوعات ثابتة، مكرّرةً نماذج وتمثّلات تقع بين تأمل وتجريد. وبين 1915 و1918، وهي مرحلة تجريبية حاسمة في عملها، أنجزت رسوماً على ورق تعادل بكميتها تلك التي حققتها خلال العقود الأربعة اللاحقة. رسوم تقتصر على خطوط جريئة وحيوية، على مشاهد عضوية أو أجساد هيكلية عارية، وعلى تشكيلات تجريدية. وفي الوقت الذي توجهت خلاله أكثر فأكثر نحو الرسم بألوان زيتية على قماش، أعادت سلاسل مهمة تأكيد التزامها الرسم على ورق، كسلسلة الزهور في الثلاثينيات، وسلسلة البورتريهات في الأربعينيات، وسلسلة المشاهد الجوية في الخمسينيات. نشاط في غاية الأهمية لأن الرسام يبدي أكبر قدر من الجرأة لدى رسمه على الورق، فيكشف بذلك “أناه” الأكثر أصالة. وبالنسبة إلى أوكيف، سمح عملها على هذه الركيزة البسيطة بالإمساك ليس فقط بأشكال الطبيعة، بل أيضاً بإيقاعاتها، كرسم الانحدار اللولبي للشمس بألوان نيّرة، أو إسقاط بلون أسود مخملي الرؤية المتحوِّلة لمشهد من نافذة طائرة.

في حوار معها مطلع الستينيات، وكانت قد تجاوزت سن السبعين، صرّحت أوكيف: “لقد سافرت كثيراً في المرحلة الأخيرة، طفتُ في مختلف أنحاء المعمورة وتأملتُ من نافذة الطائرة عدداً كبيراً من الصحارى والأنهار. مناظر مدهشة كانت ترتفع وتصطدم بعينيّ”. ومن نافذة الطائرة، كانت الفنانة ترسم هذه المناظر على قصاصات ورق صغيرة، ثم تتابع العمل عليها بقلم الفحم، فور هبوطها، ساعية إلى الإمساك بتحوّلاتها بواسطة عدد محدود من الخطوط الرفيعة والعريضة. ومع أن رسوماً مثل سلسلة “دروينغ إكس” (1959) مبسّطة إلى حد تبدو فيه بعيدة كل البعد عن الأنهار التي ألهمتها، لكن أوكيف أصرّت على العكس: “لا شيء مجرّداً في هذه الرسوم. إنها تجسيد لما شاهدته، وهي واقعية في نظري”.

الرسامة جورجيا أوكيف ظلت تنطلق من الصفر لبلوغ الجوهر

أكثر من أربعة عقود قبل ذلك، أنجزت بقلم الفحم سلسلة مختلفة من الرسوم هي التي جلبت لها الاعتراف الفني الذي كانت تبحث عنه. فبينما كانت تعمل مدرّسة للفنون في ولاية كارولينا الجنوبية، عام 1915، وضعت جانباً أمثولات تعليمها الجامعي وانطلقت في اختبار خطوط وأشكال ملتوية ضمن تشكيلات سمّتها “الرسوم الخاصة”. وفي سياق هذا النشاط، كتبت لصديقتها أنيتا بوليتزر: “أبدأ مجدداً من الصفر. لقد وضعتُ خلفي كل ما فعلته في السابق، ولا أتوقّع الخروج إطلاقاً مما أفعله حالياً، أو على الأقل، لفترة طويلة”. رسوم تستدعي ــ وفي الوقت نفسه تقاوم ــ المقارنة مع نوافير الماء، دوامات الدخان وشتلات النباتات التي ألهمتها، وقد أرسلت أوكيف نماذجاً منها لبوليتزر التي لم تتردد في عرضها على المصوّر ستيغليتز، فافتُتن بها إلى حد عرضه عشرة منها في غاليري “292”، ضمن معرض جماعي، عام 1916، ثم تنظيمه معرضاً فردياً لأوكيف في العام اللاحق. وحول هذه الرسوم، صرّح آنذاك: “إنها أنقى وأصدق الأعمال التي كان لي شرف عرضها”.

من الصفر دائماً

بعد بداياتها في هذه الغاليري، استمرت الفنانة في “البدء مجدداً من الصفر”، مستكشفةً على الورق وعلى القماش ما كانت تسميه “الموضوعية” و”التجريد”. وفي هذا السياق، كانت ترى أن “الموضوعية” تتطلب تأملاً دقيقاً في العالم الخارجي، بينما يستدعي “التجريد” تجسيد أفكار أو اختبارات. لكن في أعمال مثل “تجريد أزرق” (1927)، يتصادم هذان المفهومان، إذ تنقسم الطيات الزرقاء والبنفسجية والزهرية المورقة إلى جزءين في هذه اللوحة، بفعل لمعان أبيض ينحسر في أسفلها ليتحول إلى نقطة، وتتناقض حوافه المستقيمة مع التموجات المتراكبة على كلا جانبيه. لوحة تحاكي بتقنية التكبير المعتمدة في تشكيلها رسوماً لأوكيف تبدو موضوعاتها (زهور، أوراق، أصداف، عِظام…) وكأنها معالجة من خلف عدسة مكبّرة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن أوكيف كانت تعتبر أن “الموضوعية” و”التجريد” مرتبطان ارتباطاً وثيقاً: “إنه لأمر مدهش بالنسبة إلي عدد الأشخاص الذين يفصلون الموضوعي عن المجرّد”، صرحت يوماً، مضيفةً: “الرسم الموضوعي لا قيمة له ما لم يكن جيداً بالمعنى التجريدي، أي كخطوط وألوان تجتمع لتقول شيئاً ما. والتجريد هو غالباً الشكل الأكثر تحديداً لما هو غير ملموس داخلي ويتعذر عليّ توضيحه إلا بالرسم”.

في الثلاثينيات، اشتهرت الفنانة بطريقة رسمها الفريدة للزهور التي تقوم على إلقاء نظرة مكبِّرة على السيقان والبتلات والأوراق والأعضاء التناسلية، مستثمرةً بذلك تقنيات التصوير الفوتوغرافي التي اعتمدها صديقها المصوّر بول ستراند في عمله. ولتفسير مسعاها، صرّحت يوماً: “لم يعد أحد يرى الزهور. إنها صغيرة جداً، والناس دائماً على عجلة من أمرهم. بتكبيري هذه الكائنات الصغيرة، أردتُ أن أجبر سكان نيويورك على أخذ الوقت الكافي لرؤية ما أراه فيها”.

أما لماذا عادت دائماً إلى الموضوعات نفسها في عملها، فلأنها كانت منخرطة في سيرورة تصفية. فمثل ماتيس، أرادت أخذ عيّنات من العالم الواقعي واختزالها إلى أشكال جوهرية، نموذجية، غير مثقلة بصخب الواقع ونشازه. أرادت الاقتراب بأعمالها من روح الموسيقى وشحنها بمشاعر وانفعالات حادّة.

يبقى أن نشير إلى أن أوكيف لم تكن تجهل أن القراءات الـ “فرويدية” لعملها، كتعبير عن حساسيتها الشديدة، وعن الإروسية الأنثوية المكبوتة عموماً، ساهمت في ترسيخ شهرتها، وأن سبب هذه القراءات هو ستيغليتز الذي كان تأثيره كبيراً على طريقة استقبال الفن الحديث وفهمه في أميركا آنذاك. لكن، ومن دون أن تنكر دعم زوجها الحاسم لها، اضطرت طوال حياتها إلى التعارك لتحطيم الموشور الجنسي ــ الإروسي الذي نُظر إلى فنها من خلاله، وفرض رؤيتها الخاصة له. رؤية تشكّل رسومها المعروضة حالياً خير ركيزة لها.