تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » «جميلة ستراسبورغ» تختصر روح القرن السبع عشر

«جميلة ستراسبورغ» تختصر روح القرن السبع عشر

 

نيكولاس دي لارجيليير (1656-1746)، فنان فرنسي، يعد أحد أهم رسامي البورتريهات واللوحات التاريخية التي لا تزال حية في أوروبا خلال أواخر القرن السابع عشر والعقود الأربعة الأولى من القرن ال 18، تربى في طفولته في أنتويرب – بلجيكا، وعندما بلغ التاسعة سافر لأول مرة إلى لندن، ثم عاد إلى أنتويرب، ليتعرف جمهور الفن إلى مواهبه الفنية وهو صغير، قام والده بتدريبه على يدي أنطوني جوباو، وهو رسام عرف بتصوير المناظر الطبيعية. قُبل في نقابة الرسامين في سانت لوقا عندما كان عمره 17 عاماً فقط. في عام 1675 قام برحلة ثانية إلى لندن، فعمل مرمماً تحت إشراف الرسام الإيطالي ومصمم الديكور أنطونيو فيريو، فلفت انتباه الملك تشارلز الثاني إليه.

في تلك الفترة رسم الفنان عدداً من اللوحات بأسلوب أساتذته الهولنديين والفلمنكيين مثل: جان دافيدز هايم وراشيل رويش بعد ذلك، مارس مهنة الرسم بمهارة فائقة، مستفيداً من الطبيعة، وما فيها زهور وفواكه وحيوانات، كما رسم مجموعة من الصور التاريخية.

في عام 1679 استقر لارجيليير في باريس، وتخصص في فن البورتريه الباروكي معتداً أسلوب الفنان الكبير بيتر بول روبنز، وأنتوني فان ديك وبيتر ليلي. قدمه رسام المعارك الفلمنكي آدم فرانس فان ميولين إلى الفنان الكبير تشارلز لو برون الذي كان أول رسام للملك لويس الرابع عشر، ومديراً للأكاديمية الملكية للرسم، وعند قبوله كمرشح للقبول في الأكاديمية، وافق على تنفيذ صورة كبيرة لأستاذه تشارلز لو برون، بغرض حصوله على شهادة دبلوم في الرسم، فصوره جالساً في الاستوديو الخاص به محاطاً بأدوات فنية وأحبار زيتية.

في 1686، قام الرسام برحلة أخيرة إلى إنجلترا، حيث رسم صوراً للملك المتوج حديثاً جيمس الثاني (حكم من 1685 إلى 1688) كما رسم قرينته ماري مودينا (1658-1718). بعد الثورة وسقوط جيمس فر نيكولاس إلى فرنسا، وأقام بالقرب من باريس، وبين عامي 1689 و 1722، تم تكليفه برسم عدد من اللوحات التي تؤرخ لسلسلة من الاحتفالات المدنية التي تقام على شرف العائلة المالكة التي رعاها رؤساء ورجال الدين في مدينة باريس.

«جميلة ستراسبورغ» تختصر روح القرن السبع عشر

ضوء

من أشهر اللوحات التي رسمها لارجيليير واحدة بعنوان: (امرأة من ستراسبورغ) أو (جميلة ستراسبورغ) وأتمها في عام 1703، وهي اليوم محفوظة في متحف الفنون الجميلة في ستراسبورغ- فرنسا.

صنفت اللوحة بوصفها الأكثر شهرة من بين 1500 لوحة بورتريه لنيكولاس، ويمكن القول إنها أكثر الأعمال شهرة في متحف ستراسبورغ، بل وأكثر اللوحات الفرنسية انتشاراً في العالم.

تمتعت اللوحة بشهرة وتقدير كبيرين، نظراً لقائمة مالكيها في ذلك الوقت، ومعظمهم من الطبقة المرموقة، ومن بينهم (آنج لوران جولي) وهو ممول فرنسي شهير عاش بين 1725 و 1779، وأيضاً سيزار غابرييل دوق براسلين وهو حفيد عائلة من الماركيزات والضباط ورجل دولة فرنسي.

تم شراء اللوحة في معرض سوثبي بلندن في 3 يوليو 1963 بمبلغ كبير جدا في ذلك الوقت بلغ 145 ألف جنيه استرليني. ثم حصل عليها متحف ستراسبورغ بأعلى سعر بلغ أكثر من 1,7 مليون فرنك فرنسي، وكان أعلى سعر يدفعه متحف فني في حينه.

لم تسلم اللوحة برغم شهرتها الكبيرة من النقد فقد أطلق عليها الرسام الفرنسي روبرت هيتز اسم «تحفة مزيفة»، لأنها من وجهة نظره كانت تناسب ذوق الأثرياء الجدد وفي عام 1967، رسم هيتز محاكاة ساخرة للوحة وأطلق عليها (عجوز ستراسبورغ).

موضة

ترتدي الموديل في اللوحة ثوباً طويلاً ضيقاً عند منطقة الصدر، وفضفاضاً من الأسفل، الفستان ظهر بلون أسود لامع، مدعم بأكمام فوق الرسغ بقليل، الثوب ظهر مزخرفاً في أكمامه التي تغطي كتف الموديل، حيث ظهر كم الفستان مزخرفاً بثنيات من ذات لون الفستان.

كان هذا الزي شائعاً في ستراسبورغ بالقرن السابع عشر، حتى أوائل القرن الثامن عشر، وكان يتميز بألوانه العديدة بين الأصفر والأبيض والأخضر والأسود، وأكثر ما يميز هذا الزي أنه كان يدمج بين الطرازين الشعبي والمعاصر، وهو من تأثيرات أسلوب الباروك المتأخر، الذي بدا مستحدثاً نوعاً ما، وكان لاتجاهات الموضة الحديثة تأثيرها في النساء سواء من طبقة النبلاء والأرستقراطيين وأيضاً الطبقة المتوسطة. يندرج فستان الموديل في اللوحة بوصفه من التصميمات الخفيفة والمرحة، وما يزيده جمالاً هو تلك الصدرية التي ظهرت بلون بني فاتح، ومدعمة بواسطة أربطة متقاطعة، أظهرتها كموديل عصرية أقرب إلى الطبقة الأرستقراطية.

بدا الثوب أنيقاً بشكل واضح، خاصة أن الرسام قد حرص على إبراز عنق الفتاة بانعكاسات اللونين الأبيض والأسود، وقد أحاط الرقبة شال حريري أبيض، فظهرت الموديل بقامة تميزها عن بقية النساء وابتسامة مشرقة على محياها.

القبعة

ما يميز الموديل في اللوحة، هو القبعة التي حرص الفنان على إظهارها في مساحة أفقية من جهتي اليمين واليسار، وقد ظهر طراز هذه القبعات عند نساء ستراسبورغ، بشكل يظهرها ملفوفة ومسطحة من الأمام وخلف الرأس، والقبعة مصممة من طرفيها على شكل قرن، وما يميزها هو مساحتها الأفقية التي تتناعم مع قاعدة القبعة، حرص الرسام أن يظهر القبعة في ثلاثة أجزاء متساوية، تنسجم مع خلفية اللوحة المزينة بالمناظر الطبيعية والنباتات المختلفة، فظهرت الموديل بوضعية مستقيمة مريحة وواثقة من نفسها.

هوية

هوية المرأة المصورة في اللوحة غير معروفة، بعض الآراء النقدية تؤكد أنها سيدة من الطبقة البرجوازية في ستراسبورغ، وبعضها يؤكد أنها لشابة باريسية متنكرة بزي مدينة ستراسبورغ، وهناك آراء ترجح أن تكون أخت الرسام ماري إليزابيث دي لارجيليير.

صنف نقاد الفن هذه اللوحة لتأكيد أنه عمل امتاز ببراعة متناهية، جمعت بين القوة والرقة، كما صنفت بأنها: «عمل نبيل لتلك الكاريزما التي تظهر الفتاة التي تحمل كل سمات الطبقة الرفيعة في ستراسبوغ، وأنها صورة لامرأة فرنسية مثالية، حرة وأنيقة وأنثوية».