تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الديو الغنائي العربي “طبخة فنية” لم يكتمل طهيها

الديو الغنائي العربي “طبخة فنية” لم يكتمل طهيها

الديو الغنائي العربي "طبخة فنية" لم يكتمل طهيها

 

إذا تأملنا المسار القصير الذي قطعته تجربة الأغاني المشتركة في العالم العربي منذ تسعينيات القرن الماضي حتى الآن نكتشف أنها لم تحقق بعد ما كانت تصبو إليه هذه الممارسة منذ لحظة بدايتها، بعدما باتت تطرح مجموعة من الأسئلة المركزية في علاقتها بمفاهيم الحداثة والتحديث.

لم يفهم الناس سبب لجوء عديد من المغنين والمغنيات إلى بعضهم بعضاً من أجل كتابة وتلحين وأداء بعض أغانيهم الجديدة، لكن السبب بالنسبة إلى مؤسسات الإنتاج الموسيقية، كان واضحاً منذ البداية، ويكمن بالأساس في خلق صناعة فنية رائجة يستفيد من مداخيلها الكل، فعلى رغم أن الأغنية المشتركة تجربة غنية من حيث المفاهيم والآفاق والتجليات، فإنها لم تخلق بعد أي جديد يعول عليه موسيقياً، باستثناء تجارب غنائية شابة، عملت فيما بينها على خلق نوع من الموسيقى الهجينة التي تضمر في اشتغالاتها الموسيقية أشكالاً غنية ومتباينة.

إن الهدف الحقيقي من هذه التجربة ينبغي أن يكون البحث عن منافذ موسيقية جديدة وآفاق رحبة تطوع فعل الإبداع، وتجعله ينفتح على مناخات فنية مغايرة بدلاً من التنقيب عن شهرة مصطنعة وراء نجم، فالتجارب التي لجأت إلى “الديو الغنائي” لم تفكر في بادئ الأمر، فيما يمكن أن تفتحه هذه التجربة على صعيد الصنعة، فكل ما كان يعنيها هو حجم التفاعل مع الأغنية المشتركة.

وحين يقدم بعض المغنين أغانيهم يتم طرحها على أساس أنهم اشتغلوا مع النجم فلان، وليس ما استحدثوه معاً من موسيقى جديدة ولحن مختلف وأداء متنوع يمزج بين القوالب الغنائية المعاصرة وخاماتها الصوتية المتباينة.

في التسعينيات حين كان الفنانون يعملون على “الديو الغنائي”، كان ذلك من باب التعاون في سبيل فرض بعض القوالب الموسيقية المتشابهة. وشيئاً فشيئاً، تحولت العملية إلى صناعة فنية رائدة تدر عائدات مادية كبيرة على مؤسسات الإنتاج وبأقل كلفة ممكنة.

أغنية واحدة كانت مداخيلها تفوق ألبوماً غنائياً منفرداً بأكمله، وبقدر ما كانت الأغاني المشتركة تحقق شهرة واسعة، ظلت التجربة أسيرة نفسها ولم تستطع التأثير في الغناء العربي المعاصر، لأن هذه الصناعة، لم تخلق لها امتداداً حقيقياً يبلور مشروعاً موسيقياً، بقدر ما بقيت سجينة النموذج والآفاق.

سرعة الانتشار

انتشرت الأغاني المشتركة بقوة خلال التسعينيات بعدما غدا الفنانون يتنافسون فيما بينهم لكتابة وتلحين أغانٍ بأصوات متعددة، وإذا ابتعدنا عن غناء “الراي” الذي حقق طفرة قوية في هذا التاريخ، فإن التجارب التي ظهرت في سوريا ولبنان ومصر، كانت هشة ويغلب عليها الترفيه والمحاكاة.

استطاع “الراي” عبر مجموعة من الأسماء مثل خالد ومامي وحسني وميمون الوجدي وسعيدة فكري خلق تمازج فني قوي بين الموسيقى المغاربية ونظيرتها الغربية. استفاد المغاربيون من موسيقى البحر الأبيض المتوسط وحاولوا عبرها اجتراح أفق موسيقي غني أكثر معاصرة والتحاماً بتبدلات الواقع.

وعلى رغم أصالة كلمة “الراي” وقربها من المعيش اليومي، فإن هؤلاء الأسماء راهنوا على الموسيقى، باعتبارها أولوية في العمل الغنائي وليس مجرد إيقاع، بل تأخذ الصناعة الموسيقية مكانة مميزة في التأليف الغنائي وسلالمه الإيقاعية. كل شيء في “الراي” يبدأ من الموسيقي وآلاتها الإلكترونية، وصولاً إلى جماليات الكلمة وفتنتها التي قد تبدو من دون الموسيقى لا شيء.

حين صدر “الديو الغنائي” بين الشاب مامي (1966) والمغني والعازف الإيطالي زوكيرو (1955) لم يكن تقييمه الجمالي راجعاً بالأساس إلى عدد اللايكات والمتابعات كما يحدث اليوم، بل من خلال التأثير الذي أحدثه في صفوف المجتمع، لدرجة أن أغنية “قلبي بغاك نتييا” حققت رقماً قياسياً على مستوى الاستماع وأخذت تحفر مجراها عميقاً في جسد المجتمع.

إن نجاح الأغنية يبدأ من اللحظة التي ترج فيها السلالات الغنائية وتهدم النسق الموسيقية، وتحاول من خلال وجودها أن تبني أفقاً فنياً كونياً لها. يكاد هذا الأمر، لم يحدث في تاريخ الموسيقى العربية، قديماً وحديثاً، فالأغنية العربية مؤسسة على الإنشاد والمحاكاة، حيث اللحن والصوت أهم من الموسيقى، عكس التجربة الغربية الحديثة والمعاصرة ذات الوعي القوي بالموسيقى وتشابكاتها الجمالية مع الصوت.

نجح المغني الشاب مامي في النفاذ إلى جوهر النص، وحاول عبره اجتراح موسيقى تتلاءم في تشكلاتها الفنية مع الكلمات الإيطالية، بل إن سحر الأغنية ونجاحها شكلاً ومضموناً، جعلها إلى حدود اليوم باقية في وجدان المستمع وكأنها أغنية جديدة، بحيث لم تختف الأغنية عبر مسارها الجمالي الطويل المرتبط بعملية التداول اليومي، كما حدث مع التجربة الغربية.

يقول الكاتب سلام أبو ناصر، “يمكن أن نعزو نجاح بعض تلك الأعمال في تكوين حالة موسيقية خاصة، للأجيال الشابة الجديدة التي كانت مؤهلة لتشرب هذا الشكل من الأغنيات غير المألوفة في تلك الفترة، وميلها إلى أعمال أكثر صخباً ومرحاً وعاطفة، ومن أبرز تلك الأعمال، أغنية (عيني) التي جمعت بين الفنانين المصريين هشام عباس وحميد الشاعري عام 1994، وكذلك بين المصريين محمد منير وخالد عجاج في أغنية (ليه يا دنيا الواحد) عام 2000، وأغنية (مين حبيبي أنا) للفنانين اللبنانيين وائل كفوري ونوال الزغبي التي صدرت عام 1995، وتجربة أخرى جمعت أيضاً بين اللبنانيين راغب علامة وإليسا في (بتغيب بتروح) عام 2000”.

على مستوى التأليف وإلى حدود بداية الألفية الجديدة، كانت الأغاني المشتركة جيدة وتخلق دوماً الحدث غنائياً، لا سيما حين يلتقي في الأغنية بعض الوجوه الفنية المعروفة، فإن ذلك يسهم لا محالة في نجاح العمل الفني وذيوعه جماهيرياً.

نجحت هذه الأغاني في تلك الفترة، لأنه كانت هناك رغبة قوية في تجديد الغناء العربي. كانت بداية الألفية الجديدة عبارة عن مختبر جمالي حاول فيه فنانون القطع نهائياً مع القوال الغنائية القديمة، فجاءت هذه الأغاني المشتركة كشكل تعبير جديد يوحد الأغنية العربية، ويجعلها تخرج من سراديبها المظلمة على مستوى التجريب. كانت الأغاني المشتركة عبارة عن تمهيد حقيقي لصناعة الكليبات التي ستصبح خلال هذه المرحلة أكثر قوة ونفوذاً.