مسلم بن أحمد الكثيري*
يُشوِّقُني بَرْقٌ من الحّي لامِعُ
لعّلَ بهِ تبدو الرُبى والمرابِعُ
وحيثُ طرَى عرْفَ النسيم إذا سَرى
تذكرتُ ما تحويهِ تلك المواضِعُ
هذا مطلع أغنية عوّادي حضرمية مشهورة وهي من شعر القاضي عبدالله باحسن ولها مكانة بارزة في التراث الغنائي الحضرمي ومحمد جمعة خان بصفة خاصة، وإن شاء الله تكون لي وقفة مع هذا النص وصاحبه في مقال قادم. ولكن في البداية أود أن أشكر القراء المتابعين لمقالاتي المتواضعة الذين تواصلوا معي ونبهوني إلى الخطأ في كتابة اسم الأمير أحمد فضل القمندان وفي مقدمتهم الكاتب والموسيقي اليمني جابر علي أحمد، وأعتذر عن ذلك السهو، وقد صححته بالعنوان هنا من محمد إلى أحمد، واسمه الكامل هو الأمير أحمد علي محسن العبدلي الملقب بالقمندان تحريفا أو تعريبا للكلمة الإنجليزية (commandant) وهي رتبته أو مكانته العسكرية.
أتابع في هذا المقال الكتابة عن المطرب والملحن الحضرمي محمد جمعة خان، حيث كنت قد خصصت مقالين سابقين للمقندان ومشروعه الموسيقي في السلطنة العبدلية اليمنية.
يصف الكاتب والموسيقي الحضرمي عمر عبد الرحمن العيدروس في كتابه «مقدمات في الأغنية الحضرمية» الظروف الاجتماعية والثقافية التي كانت في ساحل حضرموت ونشأ فيها المطرب محمد جمعة خان بأنها كانت مشبعة بالتأثير الثقافي والموسيقي الهندي على وجه الخصوص، وأقتبس من كتابه مع بعض التصرف في الصياغة والاختصار بأن «الحضور الهندي البشري والثقافي في عاصمة السلطنة القعيطية المكلا كان كبيرا، حيث استقدمهم القعيطيون وعملوا في مختلف الوظائف، فكان منهم الوزراء والأطباء والعسكريون والفنيون والتجار وغيرهم. والفترة الممتدة من مطلع القرن العشرين الميلادي حتى منتصفه هي ذروة التأثير الهندي المباشر على الساحل الحضرمي بالذات في مدينة المكلا بدءا من فرض العمامة البنجابية على العسكر، وعادة مضغ التنبل، وتصميم القصور، واستعمال بعض المفردات الهندية في اللغة واللهجة الحضرمية.. وطال هذا التأثير الطرب وتم استعمال آلة الهارمونيوم الهندية التي نافست آلة القنبوس المحلية التقليدية وظهرت الأغاني المحلية المتأثرة بهذه الأجواء». وكان الكثير من الحضارم قد هاجروا للهند منذ زمن بعيد، ومعظم سلاطين الدولة القعيطية الذين أسسوا دولتهم في حضرموت الساحل بعد صراع عنيف مع السلطنة الكثيرية عاشوا وتربوا في الهند البريطانية وتمتعوا بعلاقات عميقة معها، وتمكنت بريطانيا من وضع جميع السلطنات العربية الجنوبية تحت سيطرتها وكانت مدينة عدن تاج هذه المحميات. وقد ذكر لي الفنان العُماني العارف بالراجات الهندية رحمت حسن البلوشي أن راجا هنديا يُعرف بـــ «يمن كاليان» وفسره لي بمعنى بنت اليمن، وعليه إذا كان هذا دقيق فإنه فعلا أمر لافت للنظر. وبشكل عام الصلات الثقافية الحضرمية الهندية قديمة، واسم الهند يثير إشكالات عديدة؟.
يفيدنا الكاتب جابر علي أحمد في كتابه «تيارات تجديد الغناء في اليمن «ببعض المعلومات المهمة عن المطرب محمد جمعة خان الذي يبدو لي أن أسرته كلها لها علاقة بشكل مباشر أو غير مباشر بالموسيقى، فكان «والده جمعه بن عبد الرزاق سميّع مفتون بالموسيقى والطرب والغناء، ويقتني تسجيلات لكبار فناني الهند». من هنا نلاحظ أن الشاب الصغير محمد جمعة، الذي تعلم العزف على عود القنبوس في مرحلة من مراحل عمره «التحق حوالي 1918 بالموسيقى العربية السلطانية، ثم بالفرقة الموسيقية النحاسية عازفا على آلة الكلارنيت. وتعزف هذه الفرقة الألحان الهندية والغربية وكانت بقيادة ضابط موسيقي هندي ثم محمد جمعة خان نفسه». من هنا أعتقد أن المقامات الميجورية والمينورية الغربية وبعض الراجات الهندية دخلت ولو بشكل محدود في ظل هذه الظروف الثقافية ومؤثراتها الموسيقية إلى الغناء الحضرمي ولكن دون أن يعني هذا تأثرا بالنظرية الموسيقية الهندية أو الغربية، فقد كان الأمر مقتصرا على اقتباس بعض الألحان وأساليب أدائها، وظل الغناء الحضرمي كله يعتمد على الممارسة والتوارث الشفهي وليس له تعليم نظري تحليلي مكتوب للغته الموسيقية وضروبه الإيقاعية.
أختم هذا المقال بواحدة من أغاني محمد جمعة خان الشهيرة والتي ربما كان لحنها مقتبسا من أصل هندي وهي بعنوان: «عَلّموهُ كيفَ يَجفو فجفا» لأمير الشعر العربي أحمد شوقي. ومن الملاحظ أن نصوص هذا اللون الغنائي معظمها حسب علمي من الشعر الفصيح. وبهذه المناسبة أقترح على القارئ الكريم الاستماع إليها من اليوتيوب بصوت المطرب محمد جمعة وكذلك بصوت المطرب الحضرمي عمر الهدار وملاحظة استمرار توارث الأغاني الخانية (نسبة إلى محمد جمعة خان) وأدائها بأساليب متجددة.. وللمقال بقية.
علّموهُ كيفَ يَجفو فَجفا..
ظالمٌ لاقيتُ منهُ ما كفى
مُسرِفٌ في هَجرهِ ما يَنتهي..
أتُراهُم علّموهُ السَرَفا
جعلوا ذَنبي لديهِ سَهري..
ليتَ يَدري إذ دَرى الذنبَ عَفا
عَرَفَ الناسُ حُقوقي عِندهُ..
وَغَريمي ما دَرى ما عَرَفا
…………
موسيقي وباحث عماني
نقلا عن صحيفة “عمان”