كان الكاتب الكوبي أليخو كاربانتييه (1904 – 1980) بالكاد بلغ الرابعة والعشرين من عمره حين تجاورت لديه في وقت واحد حساسيتان لم تكونا لتتمايزان كثيراً عن بعضهما البعض في عشرينيات القرن العشرين: حساسية تنويرية إنسانية من جهة، وحساسية سريالية بدت يومها على الموضة من جهة ثانية. ومن هنا لم يكن غريباً للكاتب الشاب المولع بشتى أنواع الفنون أن يكتشف أبكر من غيره الإمكانات الجمالية والاجتماعية وحتى السيكولوجية والفلسفية لفن السينما الذي كان لا يزال صامتاً حينها. وفي ذلك الوقت، حين نتحدث عن السينما الصامتة كان لا بد للحديث أن يجرنا إلى واحد من كبار هزلييها العباقرة، تشارلي شابلن الذي كان قد ساد عالم الأفلام القصيرة قبل أن يخوض مجال الأفلام الطويلة ويضحي رقماً صعباً في تاريخ الفنون. بل يصبح حتى القاسم المشترك بين جماهير غفيرة راحت تتابع إنتاجاته في شتى أنحاء العالم، ونخبة من المبدعين والمفكرين وجدوا لديه وحتى في وقت لم يكن قد أنتج فيه سوى اثنين أو ثلاثة من روائعه في مجال الأفلام الطويلة. وفي وقت كان لا يزال أبكر من أن يخوض فيه حربه الشرسة ضد السينما الناطقة، مفضلاً للغة الجسد وحدها أن تنطق وتقول ما كان يتراءى له أن اللغة المنطوقة تعجز عن قوله. ومن هنا احتضن السرياليون “شارلو” باكراً ونسبوه إليهم، بوصفه المعبر عن فن قائم في ذاته.
جدية شابلينية مبكرة
ومن هنا لم يكن غريباً على أليخو كاربانتييه الآتي من هافانا في كوبا إلى باريس التي كانت حينها قبلة المبدعين في العالم أجمع، والتي تتواكب فيها السريالية مع الأفكار التنويرية التقدمية بل تتمازج فيها شتى الفنون وشتى الجنسيات في بوتقة واحدة، لم يكن غريباً بالنسبة إليه وهو الراغب حقاً في أن يصبح بكتاباته واحداً من السرياليين المبكرين، أن يبكر في كتابة نص عن شابلن قد يكون من النصوص الأكثر جدية التي كتبت عن ذلك الفنان، وفي مجال يبتعد عن الوجدانيات ليقترب من التحليل المنطقي الفلسفي السيكولوجي في وقت واحد. وكان ذلك عند نهاية عام 1928 لمناسبة استعراض كاربانتييه فعاليات مهرجان لسينما شابلن أقيم في واحدة من الصالات الباريسية أمام جمهور حاشد كان كاربانتييه فرداً من أفراده مكلفاً بتغطيته لحساب مجلة “كارتليس” الثقافية التي كانت من أشهر مطبوعات هذا المجال حينها. ولقد كان من الدلالة بمكان أن يستهل الكاتب الكوبي الشاب تغطيته بالإشارة إلى أن ثمة دراسة شديدة الجدية حول فن شابلن لا تزال في حاجة إلى أن يكتبها أحد. وطبعاً نعرف أن عشرات الدراسات عن ذلك الفن قد صدرت منذ ذلك الحين وبعضها بقلم مفكرين وفلاسفة كبار التقطوا “فلسفة شارلو” باكراً، كما فعل كاربانتييه ليحولوها إلى فكر ازدهر وصَخَب طوال القرن العشرين.
على خطى البيكارية
يذكر كاربانتييه في نصه أنه كان قد كلف بتقديم بعض ما عرض من إبداع شابلن خلال المهرجان، ومن هنا لم يجد مناصاً من أن يذكر بين الحين والآخر بكم أنه يعتبر سينما شابلن نوعاً من الاستكمال للرواية البيكارية التي ظهرت في الآداب المكتوبة بالإسبانية منذ القرون الوسطى سائرة على خطى أدب المقامات العربي الذي وصل إلى أوروبا من طريق الأندلس العربية، ولا سيما من طريق رائعة ثيربانتس “دون كيخوتي” التي تدين كثيراً للأدب العربي الحكائي. وربما وصل إلى شابلن بخاصة من طريق رواية “تاريخ حياة غران تاكانيو” للكاتب الإسباني كويبيدو “مع فارق أساسي يكمن في أنه بينما كان الغران تاكانيو يمثل الشر المطلق والاحتيال المتواصل، لا ريب أن شارلو يعبر عن الخير المطلق” بحسب تعبير كاربانتييه نفسه، الذي يضيف “ولعل القاسم المشترك بين البطلين هو أنهما معاً قد عاشا النوع ذاته من الحياة الشريدة تحت رحمة المخاطرات التي تعدهما بها المغامرات التي يجد كل واحد منهما نفسه في غمارها”. وهنا في هذا السياق تحديداً يذكر كاربانتييه أن رجال الشرطة ذوي الأزرار المعدنية البراقة والنظرات القاتلة والعصي المهلكة الذين يطاردون شارلو ويحاولون إذلاله من دون هوادة يكادون أن يكونوا أحفاد رجال السلطة المدعوين “غزيلين” في رواية كويبيدو. “كل هذا بينما يتقافز شارلو كحال غران تاكاينيو من عمل إلى آخر بسهولة لا مراء فيها” ومن حال إلى حال “غالبا من دون مبرر منطقي يحمل على أية حال مبرراته الخاصة”.
بين الجوع والطموح
وفي هذا السياق، يتوقف كاربانتييه ليذكرنا بكيف أن شارلو يجد نفسه في كل لحظة، تحت غائلة الجوع حيناً والطموح حيناً آخر، ينوع في وظائفه “فنجده حيناً ملاكماً أو مهرجاً أو عامل سيرك أو حتى شرطياً أو حتى عاملاً ميكانيكياً ثم عاطلاً من العمل قبل أن يتحول إلى مهاجر وسجين وجندي ونبيل مزيف وأطفائي ثم باحث عن الذهب في الغرب الأميركي…”. وإلى ذلك تتقلب الأحوال بشارلو إلى درجة أننا إذ نتركه ثرياً في نهاية “البحث عن الذهب” نراه حزيناً مرتعباً يبحث هذه المرة عن أي عمل عند بداية فيلمه التالي “السيرك”. ولئن كان شابلن قادراً في رأي كاربانتييه، على إثارة كل ما نحمله في أعماقنا من مشاعر إنسانية وتحديداً بتصرفات تبدو في ظاهرها بعيدة كل البعد من أية جدية، فما هذا إلا “لأن المبدع قد أدرك الحقيقة الرهيبة التي أفهمته أن ليس عليه – أو علينا – أن نبحث عن البؤس الإنساني الكبير، في أية حال استثنائية، أو في أية مأساة قد لا تحدث سوى مرة واحدة، وبفعل صدفة ما، بل في تتابع تلك الفواجع الصغيرة التي تبعث أكبر مقادير من الحزن في الحياة اليومية”. ففي عمق الأمور، يستطرد كاربانتييه “يتعين علينا أن نبذل جهداً عقلياً كبيراً لكي نفهم ميديا إذ تقتل أولادها ذبحاً، أو أوديب وهو يفقأ عينيه (…). ومن هنا فإن شابلن الذي يبذل جهوداً تفوق قدرته للحصول على الحب والمجد، شابلن الذي يتطلع دائماً لأن يكون لامعاً، ذا كرامة وقيمة، والذي يجاهد في كل لحظة من لحظات وجوده، ضد شبح السخافة الذي يحسه متربصاً به، يكاد يكون في حد ذاته، نوعاً من توليفة إنسانية لا شك أننا نجد فيها جزءاً من ذواتنا حيثما قلبنا الفكر فيها…”.
باختصار، يقول كاربانتييه إن شابلن هو “دون كيخوتي” معاصر ولو على مقياس أضأل من مقياس بطل ثيربانتس الخالد. إنه بطل على طريقته لا يتطلع إلى أكثر من أن يكون له مكان صغير تحت الشمس. إنه لا يريد أكثر من أن يحَب ويحبّ كما يفعل الناس جميعاً. لكنه دائماً ما يخرج من محاولته البسيطة مهزوماً، والأدهى من ذلك والأمرّ هو أن هزيمته تكون دائماً على أيدي أصحاب الشنبات المتحذلقة، والغضب المتواصل، على أيدى بائعي “النقانق” والطباخين الغيلان، ورجال الشرطة القساة وغيرهم من أولئك الأشاوس الذين كغيرهم من مئات الأعداء، لا يتوانون عن تسخيف أكثر تصرفاته نبلاً. و”لنتذكر هنا، يقول كاربانتييه، كيف أن المرة الوحيدة التي تعايش فيها شارلو حقاً مع قدر كبير من التعاطف الأبوي مع طفل فيلم “الصبي”، سرعان ما وجد نفسه يغوص في النتائج الحزينة والمحزنة التي أسفرت عنها تلك المشاعر في تلك اللحظة من حياته العاصفة”. ومن هنا لن يكون غريباً أن يلاحظ كاربانتييه كيف أن مظهر شارلو في حد ذاته ومن أي منظور تفرسنا فيه يكشف عن عمق المأساة التي يعيشها. إنه مظهر لا يمكن اعتباره إلا تجسيداً فاقعاً للبؤس النبيل. بل متجسداً حتى في ملابسه، من ياقته غير المسواة وسترته القصيرة جداً لكنها مزررة دائماً كرمز لأناقته الخاصة، إلى سرموله المهترئ الذي لا يتوقف عن محاولة كي طوية فيه مستخدماً سبابته وأبهامه وبعض البصاق كوسيلة لكيه، ثم عصاه التي تبدو وكأنها أثر باق من نبل قديم، ولكن خاصة قبعته التي يستخدمها كي يوزع ألف سلام وسلام شمالاً ويميناً وغالباً لمن يمر بهم من دون أن يلتفتوا إليه فإذا التفتوا لم يبادلوه إلا بنظرة احتقار هم الذين ليس سراً أن أوضاعهم لا يمكن أن تكون خيراً من أوضاعه.