تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » حكاية لوحة: “الموسيقيون”… تحفة كارافاجيو الذي قتله طلاء ألوانه

حكاية لوحة: “الموسيقيون”… تحفة كارافاجيو الذي قتله طلاء ألوانه

على رغم الجانب المظلم الذي اشتهر به كارافاجيو فإنه أظهر وجهاً آخر في بعض أعماله، أبرزها لوحة “الموسيقيون” التي أنجزها عام 1597 وتعد من أكثر أعماله طموحاً وتعقيداً حتى اليوم.

كثيراً ما شكل الفن ملاذاً ومتنفساً للفنان، غير أن المفارقة المأسوية تبرز حين تنقلب هذه العلاقة لتتحول الأدوات الإبداعية ذاتها إلى مصدر اتهام أو معاناة. فالطلاء والفرشاة لم يكونا في بعض الأحيان مجرد وسيلة للتعبير الجمالي، بل صُنفا كأحد المشتبه فيهم في معاناة الفنانين من اضطرابات نفسية وتقلبات مزاجية، بعدما تبين أن مادة الرصاص المستخدمة في الطلاء تسببت عبر التاريخ في حالات اكتئاب وأعراض عصبية خطرة، وفق ما أوردته دراسات طبية في مجلة “ذا لانسيت” لعلم الأعصاب، التي أشارت إلى أن التعرض الطويل للرصاص يؤدي إلى تغيرات سلوكية ونوبات غضب، وبينت أبحاث نُشرت في “المجلة الأميركية للعلوم” وجود نسب مرتفعة من مركبات الرصاص في عينات من طلاء استخدمه رسامون كبار مثل كارافاجيو ورامبرانت.

تجسد هذه المفارقة في سيرة الرسام الإيطالي مايكل أنجيلو ميريسي دا كارافاجيو، أحد أبرز فناني القرن الـ17 وأكثرهم إثارة للجدل. فلوحاته التي جمعت بين الرهافة الحسية والقسوة الدرامية عكست ازدواجية شخصيته التي تأرجحت بين المعاناة الداخلية وصخب حياته المليئة بالشجارات، وانتهت بصدور حكم بالإعدام عليه وهربه إلى المنفى، حيث ظل مطارداً حتى وفاته.

ويرجح مؤرخون أن مادة الرصاص في ألوانه الزيتية كانت سبباً في اضطراباته المزاجية وتسممه، مما قد يكون عجل بوفاته المبكرة عن عمر لم يتجاوز 39 سنة. لتتلاقى بذلك حياته الفنية والمأسوية في لوحة واحدة من الألم والتناقض والإبداع.

“الموسيقيون” رمز للحب والموسيقى
على رغم الجانب المظلم الذي اشتهر به كارافاجيو فإنه أظهر وجهاً آخر في بعض أعماله، أبرزها لوحة “الموسيقيون” التي أنجزها عام 1597 وتعد من أكثر أعماله طموحاً وتعقيداً حتى اليوم.

اللوحة متوسطة الحجم بأبعاد (92.1×118.4سم)، تكشف جانبه الحسي والرقيق، وتبرز أسلوبه الفريد في استخدام الألوان والظلال الذي تحول لاحقاً إلى مدرسة قلدها كثر.

صور كارافاجيو أربعة مراهقين منشغلين بتعديل أوتار الكمان والعود الشرقي، ويتوسطهم عازف يتألق بوجه متوهج وذقن مشقوق وعيون دامعة. وفي الزاوية يظهر كيوبيد (إله الحب) ممسكاً بعنقود عنب في إشارة إلى النبيذ، وإلى جانبه جعبة سهامه.

أما الكمان المهمل فوق الأوراق فيوحي بوجود عازف خامس ترك آلته، وكأنه يلتقط صورة فوتوغرافية لرفاقه كما نفعل اليوم. بهذه الرموز، جسدت اللوحة قيمة الحب والموسيقى خلال زمن كانت الكنائس فيه منقسمة مع بروز أساليب غنائية جديدة.

من أين حصل على الإلهام؟
لم يأت اهتمام كارافاجيو برسم اللوحات الموسيقية من تلقاء نفسه، بل كان نتيجة مباشرة لرعاية الكاردينال فرانشيسكو ماريا ديل مونتي عام 1595، الذي أدرك موهبة كارافاجيو الفذة واستقبله في منزله.

ومن خلال دائرة معارف الكاردينال وتكليفاته، حصل كارافاجيو على أول أعماله العامة التي كانت مبتكرة للغاية، حتى إنه أصبح من المشاهير بين عشية وضحاها تقريباً.

وكانت لوحة “الموسيقيون” من أوائل تلك الابتكارات، وذلك وفقاً لمعلومات “المعرض الوطني” في لندن.

الواقعية في لوحات كارافاجيو
أثارت واقعية كارافاجيو الجدل مع معاصريه. فعلى عكس السائد آنذاك، إذ كانت الشخصيات تصور بمثالية وجمال مبالغ فيه، رأى كارافاجيو أن: “كل الأعمال، بغض النظر عن ماهيتها أو من رسمها، ليست سوى أشياء تافهة وتفاهات طفولية… إلا إذا كانت مصنوعة ومرسومة من الحياة، ولا يوجد شيء… أفضل من اتباع الطبيعة”.

عاش كارافاجيو 39 سنة فحسب، كانت حافلة بالمشكلات والشغب والاعتقالات، لكنه رسم خلالها عشرات اللوحات التي زينت المعارض والكنائس وحتى البيوت البسيطة حول العالم. ومن بين تلك الأعمال، لوحة “الموسيقيون” التي اكتشفت عام 1952 ضمن مجموعة خاصة في المملكة المتحدة، وبيعت آنذاك بمبلغ زهيد لم يتجاوز 100 جنيه استرليني بسبب سوء حالتها. واليوم، أصبحت ضمن مقتنيات “متحف المتروبوليتان للفنون” في نيويورك.