تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » لماذا حول فيرونيزي نفسه ومنافسيه إلى موسيقيين بدلا من رسامين؟

لماذا حول فيرونيزي نفسه ومنافسيه إلى موسيقيين بدلا من رسامين؟

ابراهيم العريس
يخبرنا فازاري، مؤرخ الفنون النهضوية، أن التنافس كان محتدماً في القرنين الـ15 والـ16، اللذين عمل خلالهما في البندقية، وغالباً من حول “نزل الألمان” (فنداكو دي تديسكي)، الذي كان مركزها الاقتصادي ومنطلق نشاطاتها التجارية، وربما من حول معلمهم جميعاً تيسيانو، ثلاثة آخرون من كبار رسامي النهضة، تينتوريللو وباسانو وفيرونيزي.

في متحف اللوفر، أشهر متحف فني في العالم، وغير بعيد من لوحة “الموناليزا”، تحفة ليوناردو دافنشي التي تعتبر من ناحيتها أشهر لوحة فنية في العالم، بالكاد يتدافع ربع من يتدافعون لتأمل لوحة دافنشي، لمشاهدة لوحة إيطالية نهضوية أخرى لا تقل روعة عن اللوحة الأولى، هي “عرس قانا الجليل” العمل الأشهر والأضخم للرسام البندقي فيرونيزي، التي على رغم ضخامتها ووجودها على بعد أمتار من “الموناليزا”، قليلاً ما تلفت نظر كثر، ولا سيما من بين المبهورين بمرأى تلك السيدة ذات الحنكين المنتفخين الجالسة بهدوء وكأنها تنتظر بصبر إبلالها من مرض “أبو كعب” الملم بها، ولكن تأملاً متمعناً في لوحة فيرونيزي، لن يكون عبثياً، بل سيمكن المتأمل ليس فقط من الاستمتاع بواحدة من أجمل اللوحات “الدينية”، في تاريخ الفن، بل كذلك بلوحة تعبر عن العمران الرائع إن لم يكن في قرية قانا الفلسطينية، ففي الأقل في مدينة البندقية الإيطالية الساحرة، ولكن لا شك أيضاً أن هذا المتأمل سيجد نفسه أمام متع أخرى إن كان من العارفين بتاريخ الفن، والمطلعين بالتالي على حكاية “التنافس الفني الشديد” الذي قام في تلك المرحلة من تاريخ البندقية، بين أربعة من كبار رساميها المتزامنين والعاملين حينها في المجال نفسه. غير أن ذلك المتأمل، إذ يتمعن في اللوحة سيدهشه، لا سيما إن كان من قراء كتاب النهضوي الآخر جورجيو فازاري حول تاريخ الفنون النهضوية، أن فيرونيزي إذ صور في اللوحة نفسه ومنافسيه الثلاثة الآخرين كجزء من اللوحة وبين الحاضرين الكثر فيها، لم يصورهم كرسامين كما كانت حالهم، ولم يصور حال التنافس بينهم في مجالهم المشترك، بل صورهم على شكل موسيقيين، مما يدفعنا دائماً إلى التساؤل عما إذا كانوا حقاً عازفي موسيقى إلى جانب كونهم رسامي المدينة الكبار في تلك الحقبة الأكثر ازدهاراً في تاريخها، أم أن فيرونيزي تعمد ذلك لغاية غامضة في نفسه؟

بين الموسيقى والرسم

والحال أنه قد ينبغي علينا هنا، وقبل أن يتحول النص إلى ما يشبه لعبة الكلمات المقاطعة وتزداد ألغازه، أن نوضح بعض الأمور في مقدمة تبدو لنا ضرورية. ففازاري، مؤرخ الفنون النهضوية، يخبرنا أن التنافس كان محتدماً في القرنين الـ15 والـ16 اللذين عمل خلالهما في البندقية، وغالباً من حول “نزل الألمان” (فنداكو دي تديسكي)، الذي كان مركزها الاقتصادي ومنطلق نشاطاتها التجارية، وربما من حول معلمهم جميعاً تيسيانو، ثلاثة آخرون من كبار رسامي النهضة، تينتوريللو وباسانو وفيرونيزي نفسه. ومن هنا قام بينهم تنافس شديد كان فن الرسم المستفيد الأكبر منه، بالنظر إلى أن الجودة كانت العامل الحاسم في تكليف القصور والأديرة وغيرها من المؤسسات العامة، هذا الرسام أو ذاك بتنفيذ عمل كبير من الأعمال الفنية، ولقد استفاد الفن من ذلك التنافس بصورة لا يمكن تصورها اليوم، ولكن اليوم يبقى السؤال الأساس متعلقاً بما بدأنا به هذا الكلام: لقد رسم فيرونيزي في لوحته الكبرى أولئك الفنانين الأربعة المتنافسين وهو بينهم بالطبع، في الجزء السفلي من وسط اللوحة التي نتحدث عنها، واضحين ولكن متآلفين كأفضل ما يكون التآلف، وهم يعزفون، في جوقة موسيقى حجرة منهمكين في اللعب بكل إلفة ومحبة، بينما العرس والأكل والشراب والحضور والأناقة ومجتمع البندقية الأكثر رخاء ورفاهية يتحرك من حولهم مستمتعاً مستطيباً، مما يجعل وكأن هذا الذي يحدث هنا إنما يدور في القرية الفلسطينية في حضور السيد المسيح نفسه، كما يفترض باللوحة الضخمة (نحو 10 أمتار عرضاً وسبعة ارتفاعاً) التي أنجزها الفنان في عام 1563، أن تخبرنا. لكن اللوحة، إذ تخبر الجمهور العريض بهذا، تنتقل منه لتخبر جمهور النخبة بأن الألفة كانت سائدة بين الفنانين الأربعة على رغم أنف السينيور فازاري، مما يبقي السؤال مخيماً على الحكاية كلها: لماذا لم يقدم لنا فيرونيزي نفسه ورفاقه كرسامين بل كموسيقيين؟ من المؤكد أننا هنا أمام لغز آخر من ألغاز تاريخ الفن.

معرض حول التنافس
والحقيقة أن متحف اللوفر نفسه، وفي محاولة منه للإجابة عن هذا السؤال وعن غيره من الأسئلة التي تنطلق منه، ولم يجد الباحثون فيه أجوبة وافية عنها، خارج ما يرويه فازاري في كتابه العمدة، متحف اللوفر أقام في الربع الأخير من عام 2009 معرضاً شاملاً وغريباً من نوعه تحت عنوان شديد الوضوح هو “تيسيانو، وتنتوريلو، وفيرونيزي، وباسانو: ضروب تنافس في البندقية”. وفي مقدمة “كاتالوغ المعرض” أطلق المنظمون على ما اعتبروه منافسة بين الفنانين الأربعة صفة “المنافسة الشريفة”، وبدوا معتمدين على هذا التوصيف وحده في نهاية الأمر، للتعبير عن تدخل منهم في الحكاية كلها. وذلك لأن لا اللوحات المعروضة، معبرة عن الإنتاج الغني واللافت لكل من “الفنانين المتنافسين”، ولا الدراسات المعمقة التي رافقت المعرض وأسفرت عن مطبوعات عديدة، تمكنت من فك أي من الألغاز المطروحة. صحيح أن لوحة فيرونيزي بتوثيقيتها التي تركت للخلف الوثيقة الوحيدة التي تصوره مع غيره من زملائه الرسامين أعطيت المكانة الفضلى في المعرض والمحل الأكثر وضوحاً وتفسيراً، في الدراسات والتعليقات المرافقة، لكن ذلك كان كل شيء. بل إن المعرض نفسه لم يكشف عن أي تنافس، بل كشف عن وجود نوع من تراتبية تعطي المكانة الأولى بين الأربعة لتيسيانو، وهو أمر معهود منذ زمن فازاري على أية حال، يليه تينتوريللو في مكانة متساوية مع فيرونيزي، وفي المركز الرابع باسانو الذي بدا المعرض على أية حال مهتماً به بأقل من اهتمامه برفاقه الثلاثة. ونعرف أن ليس ثمة جديد في هذه التراتبية المعهودة منذ زمن النهضة والموضوعة عادة في تواز مع تراتبية أخرى، فلورنسية رومانية هذه المرة تضم ميكاييل أنجلو وليوناردو دا فنشي ورافاييل، ولكن ما الجديد في كل هذا؟ ولماذا قد يحتاج إلى معرض؟ لقد نبع هذان السؤالان الجديدان يومها من واقع المعرض الذي أثارت أوساط اللوفر من حوله، قبل عقد ونصف عقد من الآن صخباً كبيراً، معتبرة إياه معرض بدايات القرن الجديد. فما الحكاية؟ نخشى أنه لم تكن هناك أية حكاية على الإطلاق، بل جزء من حمى المنافسات بين المعارض، واستخدام الكلام الضخم والوقائع الغريبة المفتعلة لاجتذاب عشرات الألوف من المتفرجين الفضوليين ضمن فكرة ومبدأ: دائماً أكثر! دائماً أغرب! مع أنه ليس من شيم متحف كاللوفر أن يقع عادة في مثل هذا الفخ.