علاء الدين محمود
لطالما بذل الشعراء العرب العديد من القصائد عن الحج ورغبتهم في الرحلة المفعمة بالألق والوهج والجمال، غير أن الشعراء ليسوا وحدهم، فهناك الكثير من الفنانين والمبدعين حول العالم ألهمهم مشهد الحج، وقدم العديد من الفنانين رسومات ولوحات وأعمال تتناول حب المسلمين الشديد لزيارة بيت الله الحرام، وترصد تلك الحركة الرهيبة للحجاج في لحظة طوافهم حول الكعبة الشريفة، ومع تطور وسائل الإعلام والتواصل، صار ذلك الحدث المهيب ينقل إلى مختلف أنحاء العالم؛ حيث يمثل بالفعل مصدر دهشة وتأمل للكثيرين، فهو مشهد يحتشد بالروحانيات ومعاني المحبة والسلام والتسامح والوحدة.
الفنانة الزنجبارية صديقة جمعة، التي تقيم في بريطانيا، واحدة من كبارة الفنانين والرسامين العالمين في الوقت الراهن، وقد حازت العديد من الجوائز العالمية، من بينها جائزة ليوناردو دافنشي العالمية وقد تخصصت صديقة بصورة أساسية في الفن الإسلامي المعاصر وتصميم الجرافيك والرسوم المتحركة.
«الكعبة المشرفة»، من أهم المواضيع الفنية عند صديقة، خاصة مشهد احتشاد الحجاج من كل أنحاء العالم، ومن مختلف الجنسيات، وطوافهم حولها، ذلك المشهد المهيب والعظيم، رسخ في ذهن الفنانة، وترجمته إلى لوحات لقيت صدى وقبولاً عالمياً وعرضت في أهم المعارض العالمية ودائماً ما تشير الفنانة إلى أن رحلة أداء مناسك الحج الفريدة شكّلت دوماً مصدر إلهام لأعمالها؛ حيث يأسرها مشهد الملايين من المصلين الذين يطوفون حول الكعبة كالنجوم في مجرة، وجاذبية الحج الذي يشكل أداؤه طموحاً لجميع المسلمين، ويتجلى تطور إيمان صديقة أيضاً في تطور عملها وتجدد أسلوبها، وهي وجدت نفسها تركز بصورة أساسية على الحج الذي يسعى كل مسلم لأدائه مرة واحدة على الأقل في حياته.
شوق
على الرغم من أن الفنانة لم تكن قد سافرت إلى مكة بعد عندما أنتجت لوحاتها عن الحج والكعبة الشريفة، فإنها بذلت الكثير من اللوحات حول ذلك الموضوع الديني والفني والجمالي، لذا فإن أعمالها كانت تحمل الكثير من الشغف والشوق، فهي لا تتواصل مع تجربة الحج أو عملية أداء فريضة الحج فقط؛ بل تتوق إلى الشروع في تلك الرحلة، وتنجذب كل العناصر الموجودة على كل لوحة أو اللوحات المتعددة بشكل لا يقاوم نحو المدينة المقدسة، لذلك أعطت هذه الرغبة الملحة في دواخلها لعملها تركيزاً جديداً، فابتعدت عن تقليد الفن الإسلامي الكلاسيكي، واتجهت نحو أسلوب شخصي أكثر، أسلوب يوصل في وقت واحد القرب والبعد بين صديقة وعقيدتها، وهي تقول عن تلك التجربة: «لقد كانت لوحاتي حرفياً هي التي أوصلتني إلى مكة المكرمة، لقد كان وقتاً عاطفياً للغاية».
تقرب
وكثيراً ما تحدثت صديقة عن أعمالها تلك واصفة حيوية لوحاتها عن الكعبة والحج وغيرها من الثيمات الجمالية الإسلامية، بأنها خيار جمالي يتحدث عن الفرح الذي يمنحها لها إيمانها وتعبدها وتقربها من الله تعالى، وتسترشد صديقة بالقرآن الكريم والتعاليم والتقاليد والثقافة الإسلامية لكي تبتكر فناً يحتفي بالتراث الديني الغني، وتتميز أعمالها بأنها طبقات متتالية من الألوان الزاهية والأنماط المتكررة والخطية المعقدة، والتي تجذب إلى الأذهان المصاحف القديمة المزخرفة والموجودة الآن في مختلف متاحف العالم.
نجوم
وتحمل لوحات صديقة عن الحج والكعبة المشرفة، أسراراً من الجمال الكوني، فطواف هؤلاء البشر المؤمنون القادمون من مناطق عدة يحمل معنى، كما تقول صديقة، إن أتباع العقيدة الإسلامية متحدون بدعوتهم وخضوعهم لله تعالى، فرحلة المسلمين نحو الحج كأنها تشير إلى رحلة أخرى ولقاء في الآخرة، فيما تسلط اللوحات الضوء على التوتر بين القوة الساحقة للموقع المقدس والمغناطيسية التي لا تقاوم التي تجذب المؤمنين نحو مكة، وذلك المشهد الرهيب، هو مصدر جمال لوحات صديقة والتي تقول عن تلك الحشود البشرية حول الكعبة: «تشاهدونهم بشراً وأراهم نجوماً تتلألأ»، وأعمال الفنانة هي شديدة العمق، وتحمل أسئلة تدور في ذهنها فهي تقول: «بدأت أرسم عن الحج وأحاول التعمق في ماذا ولماذا وكيف يحدث الحج».
انبهار
والحقيقة أن العديد من الفنانين والنقاد حول العالم قد بهروا بدقة تصوير الكعبة المشرفة وطواف المؤمنين حولها في موسم الحج، ويشير أحدهم إلى أن مشهد الكعبة في لوحات صديقة يذكره بحديث للأمريكي المسلم مالكولم إكس، الذي كتب عن رحلة الحج: «لم أشهد أبداً مثل كرم الضيافة الصادق والروح العظيمة للأخوة الحقيقية التي يمارسها الناس من جميع الأجناس هنا في هذه الأرض المقدسة القديمة، موطن إبراهيم ومحمد وجميع الأنبياء، كنت عاجزاً عن الكلام تماماً وسحرت بالكرم الذي أراه معروضاً في كل مكان حولي من قبل أشخاص من جميع الألوان، كان هناك عشرات الآلاف من الحجاج من جميع أنحاء العالم، لكننا كنا جميعاً نشارك الطقوس نفسها، ونظهر روح الوحدة والأخوة».
تفرد
تمارس صديقة الفن وتعبر عنه بأسلوب متفرد ومختلف، خاصة في ما يتعلق بالمواضيع الإسلامية، فعادة ما يكون عملها مفاهيمياً وتجريدياً، وليس تفسيراً حرفياً لتلك المواضيع، كما وظفت لوحاتها وأعمالها للدعوة إلى التسامح ومحاربة العنصرية، وبدأت حياتها المهنية في التصميم الجرافيكي، وواصلت كتابة وإنتاج كتب الأطفال الإسلامية وإنتاج قائمة من سلاسل الرسوم المتحركة التي تعلم أخلاق المسلمين بشكل خاص، وقد لجأت إلى إنتاج تلك المؤلفات العامرة بالصور والرسومات للأطفال، وعملت على تعليم أطفالها اللغة العربية، ونشرت العديد من المؤلفات بالعربية؛ بل واتجهت نحو إنتاج برامج تلفزيونية للأطفال قائمة على التعاليم الإسلامية وقد كان ذلك الأمر بمثابة تحدٍ كبير، غير أن صديقة أصبحت أول امرأة مسلمة ناشرة في المملكة المتحدة.
أقامت صديقة العديد من المعارض الفنية التي تعرض فيها لوحاتها في مختلف أنحاء العالم، مع التركيز على الدول العربية والإسلامية، وقد شهد بداية هذا العام إقامة معرض لها في مدينة دبي نظمته هيئة دبي للثقافة والفنون «دبي للثقافة»، وهو المعرض الذي حمل اسم «رحلة»، قدمت خلاله الفنان 10 لوحات فنية معاصرة مبتكرة جميع مواضيعها حول رحلة أداء مناسك الحج الفريدة.
قدوة
وفي مناسبات عديدة أشارت صديقة إلى أن الفنون الإسلامية بأشكالها وأنواعها المختلفة تجد قبولاً كبيراً حول العالم وخاصة في أوروبا والغرب، وذلك لما تتميز به الفنون الإسلامية من جماليات روحانية ووجدانية، وتقول صديقة حول ذلك الأمر: «أعتقد أننا بحاجة لأن نكون قدوة وأن نظهر لهم جمال الإسلام، نحن بحاجة إلى أن نفعل بدلاً من أن نقول، نحن بحاجة إلى دعم بعضنا بعضاً حتى نكون جسداً أكبر ومتصلًا ومثالًا وصوتاً أفضل».
المصدر/صحيفة الخليج