تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » قراءة في لوحة “الشجرة والذراع”

قراءة في لوحة “الشجرة والذراع”

قراءة في لوحة "الشجرة والذراع"

 

أحمد هادي*

حجاب البراق فنان تشكيلي سعودي برغم إصابته بعمى الألوان، إلا إنه يعد نموذج ومنارة للنجاح، حيث جعل من الفن والإبداع وسيلته المحببة للتعبير عن ذاته، محاولًا من خلال أعماله الفنية أن يعرف العالم بنظرة مصابي عمى الألوان للحياة.

وما هي الألوان التي لا يستطيعون رؤيتها؟.. وكيف يمكن من خلال الفن التغلب على المشاكل النفسية لدى المصابين بعمى الألوان؟

ولعل أشهر المبدعين الذين كانوا مصابين بعمى الألوان، رسام كتب الأطفال الشهير “لورين لونغ” والرسام الأمريكي هنري ألبرت مونسل وهو مدرس الفن ومخترع نظام الألوان.

اللوحة

تبتني اللوحة من مشهد سريالي مترابط في عناصره المكونة من أرض وسماء وطريق وشجرة وذراع ويد دامية واصابع وغصون
فقد مزج الفنان بين هذه العناصر لإظهار العمق والحجم والحركة والزمان والمكان والأرض والانسان وربط الشكل بالمضمون في قالب جمالي يعبر عن أصدق مظاهر الحقيقة.
مدركًا أن المظهر  الخارجي  للأشياء، لا يمثل الحقيقة ،  فأغلب أشكال الحقيقة يكّمن بالجانب الضمني من النفس الإنسانية،
أي جانب اللاشعور، و في الواقع الكامن  الذي يكمن وراء الواقع الظاهر وهو اللاشعور، وهو الحقيقة العامة الشاملة التي ينطوي تحتها ، كل مجاز، وكل حلم، وكل ما هو مكبوت واقعياً.

ومن التعيينات التي أكد عليها الفنان في لوحته السيريالية الشجرة والذراع فقد اختزلهم في صورة موزايًا فيها بين الحداثة والموروث وبين احتدام المؤثرات والرموز ليحقق بأدواته وتقنياته وإسلوبه تجريداً شاعرياً يطابق أفكاره ورؤاه، وأحلامه، المكتضة بالدلالات المتنوعة للمضمون، والرموز التي تداخلت واندمجت في العقل الباطن وفي اللاوعي واشتغل الفكر عليها لتتجلى منها إشراقات واعية في قالب جمالي مترابط وجاد.

إنه عمل فني يتسق فلسفيا مع مفردات الحياة ومضمونها ووفق  وفق آلية نفسية تلقائية  ونابعة من أعماق الفنان ونظرته للحياة والطبيعة  وارتباط الإنسان بها.

ومن خلال هذا اللوحة تتمثل في أيقونات سريالية وصورة فوق واقعية وهذه المدرسة السيريالية عرفها الشاعر  “اندريه بريتون” في إحدى كتاباته بقوله :
” دعونا لا نغفل عن حقيقة أن فكرة السيريالية تهدف ببساطة إلى الاسترداد الكامل لقوتنا النفسية من خلال وسيلة ليست سوى الأنحدار المذهل إلى أنفسنا , و الإضاءة المنهجية للأماكن الخفية , و الظلام التدريجي من أماكن أخرى ”

الشجرة والذراع
ربط الفنان بين الشكل المستلهم من بيئته الشجرة وذراع الإنسان   كي يشير إلى عمق المضمون ودلالاته الفلسفية.
حيث أن العلاقة بين الإنسان والشجر من أقدم العلاقات التي جمعت بين الإنسان وأي كائن حيّ.. وبالتالي  فقد شكلت الشجرة رمزية في كثير من الثقافات العالمية كرمز للبقاء والصمود والتحدي والتشبث بالأرض والوطن، حيث تمتد بجذورها في أعماق الأرض وتصمد  ضد أي تيارات تحاول أن تجتثها من مكانها.

الزمان والمكان والأرض والانسان

الزمان يتمثل في الشجرة وكما نعلم أن الأشجار تنمو وتكبر أمام نظر الإنسان، ومنها ما يكون كبيرًا ولكن متساقط الاورق مثل التي في اللوحة وقد أشار الفنان إلى الزمان من خلال تشكل حياة الشجرة المرحلية، حيث تمثل في حياتها خط زمنياً يعبر عن الولادة والحياة والموت والبعث ويكون مثلاً للخلود عندما يُعمّر ويتخشب، ولعل هذا المعنى يذكرنا بقول الشاعر البردوني :

تخشّبتُ والأيام مثلي تخشَّبَت
أتمضين يا أيام؟ من أين؟ حاولي

من الآن حاول أنتَ .. كيف تريدني؟
سكت لماذا؟ هزّني من مفاصلي

أأروي حكاياتي؟ جفوني محابرٌ
لأقلام غيري، حبر غيري أناملي
وهذا التناص يلتقي فيه الشاعر مع الفنان في نفس الموضوع ولكن كلاً بأسلوبه وأدواته الخاصة

المكان
إرتباط الشجر بالأرض دلالة مكانية   أي بالوطن الأم  حيث يدل الشجرة على المكان  بقامتها المنتصبة  كما تشكل أيضاً رمز للكرامة والاستقامة.

الشطرنج

وضع الفنان لعبة الشطرنج في اللوحة في بداية الطريق الممتدة إلى نهاية الأفق لما لها من رمزية مركبة متعددة الخيوط والدلالات التعبيرية، حيث أن لعبة الشطرنج فيها خطوط تقاطع كثيرة تتشابه مع لعبة الحياة التي نعيشها، فهناك معسكر الخير والشر ولكل شخص دور معين، وخطوات محسوبة، وان هناك مسارات وطرق نسير عليها ولكن هناك معسكر ينتصر في النهاية قد يكون أبيض وقد يكون أسود ، فعليك أن تحسب حساب كل خطوة تخطوها في حياتك وأن تعرف ردة فعل  الآخر.

بالإضافة إلى كل ما سبق فإن الشعراء قد تناولوا الشطرنج من جانب آخر ، وهو جانب رمزياتها ودلالاتها، فهي ترمز لتقلب الأحوال في الدنيا ،  وتقلبات الدهر الغريبة ، التي تتقلب كالحرباء ، وفي ذلك يقول ابن اللبانة :
والدهر في صبغة الحِرباء منغمس       ألوان حالاته فيــها استحــالات

ونحن مـن لعب الشطرنج في يده       وربمــا قُمــرت بالبيدق  الشاة

انفض يديــك من الدنيا وساكنها       فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا

و يقارن المتنبي بين معارك الشطرنج ، ومعارك الواقع ، ويرى أنْ لو كانت حروب الدنيا كحروب الشطرنج “لباقينا ” مع الدهر كالجبال …. ولكن هيهات
حيث يقول :
أرى الشطرنج لو كانت رجالا
تهـزُّ  صفائحاً وقناً طِوالا

ولكني أرى خـشـباً  ضعيفاً
إذا شهد الوغى لم يَدع آلا.

وفي الأخير اللوحة أبوابها مفتوحة للقراءة والتأويلات المختلفة وتحمل قيمتها في ذاتها. كونها تحمل رموزًا مركبة متعددة الخيوط وذات معاني عميقة فهي بحد ذاتها لغة بصرية رمزية انزياحية يمكن تفسيرها حسب ثقافة المتلقي ومعرفته التشكيلية والفنية.

*كاتب وناقد يمني