محمد حفيظ
لن يكفي الحنين تعبيرا بالكلمات وحدها بقدر الاشتياق؛ كما تعبّر عنه الربابة، التي صنعت لأجله، بأنامل جافة تسمع أنينها المغري رمال الصحراء حين تلف وترها الوحيد في حضرة خيمة البدوي، وناره المشتعلة؛ ليعبّر بفن الربابة، الذي يميل إلى الحزن والاشتياق، لكن حلبة الرقص البدوي لها لون السعادة إذا ما حضرت حفلت الزفاف، او استقبال ضيف في رحابة كرم بدو اليمن الواسعة.
“طالت سنين النوى ياخل والهجر طال.. وانا معذب وناظر للقاء والوصال.. مسكين قلبي غاب مظنونه”، أغنية يرافقها أنين الربابة العذب، وصوت شجي اشتهرت كثيرا، وتٌدندن اليوم أكثر على أفواه بدو الصحراء؛ حفظوها لجمالها عن فنانها الأول محمد الشاطر قبل رحيله حين كان يقود راحلة الفن البدوي في مناطق شرق اليمن قديما.
اليوم يقود راحلة الفن البدوي الفنان حسين قران، الذي برز دوره في تجديد الأغنية البدوية الشرقية، ودمج الأغنية الوطنية بالفن البدوي، وإحياء التراث الفني الشرقي من جديد بنشاط فريد وأداء متميّز، وتكثيف جهوده لإثراء المكتبة الفنية اليمنية عموما بالأغنية البدوية، أو الأغنية الشرقية اليمنية.
يقول قران، الذي نزح هربا من الحرب التي اجتاحت منطقته (الجوبة)، عام 2021، إن الفن البدوي يحتاج إلى الكثير من العمل من قِبل الجهات المعنية الرسمية والمجتمعية لإنقاذه من الهلاك الوشيك، كما هو بحاجة إلى تجميع أغانيه القديمة والحديثة، إضافة إلى تشجيع الشباب على سماعه وممارسته.
وفيما يتعلق بأدوات الفن البدوي يقول قران إن الربابة باتت على وشك الانقراض كما انقرض صانعوها بفعل الإهمال الرسمي، وعدم الحفاظ على موروث الفن
ترك قران أدوات فنّه ونجا من الموت مع اجتياح منطقته جنوب محافظة مأرب؛ يقول: “تركت أدواتي (العود والربابة والطبل)، واضطررت إلى البقاء دون غناء لمدة عام، حتى استطعت شراء عود بديل؛ لأغني من جديد”.
– بروز فن الحرب
وكغيره من موروثات اليمن تأثر الفن البدوي خاصة، والفن اليمني عامة، بفعل الحرب الدائرة في البلاد منذ تسع سنوات بطرق مباشرة وغير مباشرة، حيث أدت الحرب إلى نزوح الكثير من الفنانين اليمنيين، ومقتل عدد من الفنانين أيضا، وبذلك فقد الفنانون الحماية الخاصة بهم؛ في ظل تصعيد الخطاب الديني والحربي المتشدد، والتحريضي تجاه الفن والفنانين، فيما برز فن الحرب الذي يدعو إلى القتال وسفك الدماء؛ خاصة في مناطق حكومة صنعاء؛ مهددة أدوات الفن البدوي بالانقراض، كما هو حال المغنين وعازفي الأدوات الموسيقية البدوية، التي بات حالهم كحال الأدوات الفنية بين انعدام وشح شديد في ظل إهمال الجهات المعنية، التي من المفترض أن تشجِّع وتحافظ على الفن البدوي وأدواته ومغنيه وشعرائه؛ ليستمر التراث البدوي الجميل -بحسب الباحث في الفن والتراث البدوي مسعد عكيزان- إلا أن واقع الفن لا شيء من ذلك، وبات وضع الفن البدوي مهددا بالزوال، أيضا بفعل زحف الفن الحديث، واستخدام الموسيقا الجاهزة عبر مواقع الإنترنت، وغياب دور المؤسسات الحكومية في الاهتمام بالفن البدوي، وأرشفته.
يقتصر الفن البدوي اليوم -بحسب الباحث عكيزان- على المناسبات الرسمية أو السياحية، أو الأعراس في بيوت شيوخ القبائل، ولم يعد متنفسا للبدو ذواتهم، وبات عدد الفنانين وعازفي الأدوات الموسيقية البدوية بعدد أصابع اليد الواحدة في واحة البدو كاملة، الممتدة من شبوة إلى الجوف.
– طقوس وألوان
يقول عكيزان إن المناطق البدوية عرفت ألوانا متعددة من الفن الغنائي منذ وجد الإنسان البدوي في محافظات مأرب والجوف وشبوة، ومارست الغناء وأدواته المختلفة عبر مراحل متعددة، بدأت بالارتجال، وتطوّرت إلى أن أصبحت تصاحبه اليوم أدوات الفن البدوي الفريدة؛ مثل: الربابة، والمزمار، والعود، والطبل.
وتتنوّع ألوان الفن البدوي الغنائي بحسب الطقوس التي يمارسها الفنان في حياته اليومية؛ ومنها: فن البالة، والزامل، والمهيد، والهجرعة، والفنون الغنائية الأخرى، التي تؤدَى أثناء مناسبات.
– ربابة ومزمار
تتعدد الأدوات الموسيقية المصاحبة للفن البدوي؛ منها الربابة وحيدة الوتر، التي تُصنع من الخشب والجلد، وكذلك الشبابة، أو ما يسمى محليا “المزمار”، التي تصنع بدائيا من عود القصب، إضافة إلى الطبل والدُّف.
وظهرت -خلال مرحلة التسعينات- أدوات موسيقية حديثة؛ مثل العود، دخلت ضمن أدوات الفن البدوي، وذلك بالتأكيد يصاحبه الرقص البدوي الفريد والنوعي للنساء والرجال على حدٍ سواء.
– طقوس البداوة والفن
سُمع نغم الربابة والدان البدوي من زمن بعيد في مناطق متعددة في الجزيرة العربية عامة، وخاصة في دول الشام ودول صحراء الربع الخالي؛ التي منها اليمن وعُمان والسعودية.
في اليمن اشتهرت الربابة حتى اليوم في المحافظات الصحراوية (مأرب، وشبوة، والجوف) بالفن البدوي المختلف بطقوسه وألوانه وأدواته المختلفة.
يتحدث الباحث عكيزان بصوت هادئ: “الفن، المفترض به أن يُمارس دون طقوس محددة، لكن للبدو صفاتهم الفريدة، بممارسة الفن بتكامل طقوسه من حيث التوقيت الليلي الهادئ، وخيمة الشعر (منسوجة من شعر الخيول والإبل والأغنام)، والنار، وحلبة الرقص، إضافة إلى دلة (وعاء مميّز) القهوة العربية الحارة”.
وللفن البدوي رواده قديما؛ يقول الباحث عكيزان: “الفنان الراحل محمد الشاطر (من السبعينات إلى الثمانينات) كان له دور بارز في إحياء الفن البدوي قديما في المناطق الشرقية (مأرب وشبوة والجوف)، وقدّم أعمالا فنية بدوية كثيرة لازالت أغانيه تُسمع حتى اليوم؛ رغم أنه لم يلحق الطفرة الإلكترونية الحاصلة اليوم؛ ليحتفظ بما قدّمه، إنما سُجلت له عدد بسيط من أعماله الغنائية في إذاعة مأرب المحلية، التي لها الفضل في جمع أرشيف واسع من الأغاني البدوية للفنانين القدامى؛ منها أغانٍ للفنان الراحل الصانع، والفنان عازف الربابة الراحل العقيلي، والفنان الراحل سعيد بهيش، وغيراهم”.
نقلا عن “قناة بلقيس”