يزداد في الوقت الراهن إقدام فتيان وشبان يمنيين على نشر صور لقراهم، عمرانها، مدرجات حقولها الجبلية، وطبيعتها، على مواقع التواصل الاجتماعي. الأرجح أن عوامل عدة، تشي بها تعليقاتهم المدونة إلى جانب الصور، دفعتهم إلى ذلك: افتتانهم المستجد والمتزامن بفن التصوير، بصفاء نمط عيشهم القروي، وبجمال الطبيعة الجبلية. وهم يصورون بهواتفهم المحمولة، رفيقتهم أثناء رحلاتهم أفرادا ومجموعات، في تلك الطبيعة المحيطة بقراهم، ثم ينشرون الصور يوما بعد يوم على مواقع أنشأوها على “فيسبوك” و”إنستاغرام” وغيرهما من منصات التواصل الاجتماعي.
يُلاحَظ أن تلك الصور، إضافة إلى كثرة من الفيديوهات، تكاد تخلو من مشاهد الحياة اليومية والاجتماعية في تلك القرى، إلا في ما ندر. وإذا كان تفسير هذه الظاهرة يحتاج إلى استقصاء ميداني، فإن إمعان النظر في الصور الكثيرة، والتفكر في ما توحي به أو تنطوي عليه بناءً على حدس سوسيولوجي، قد يتيحان بعض الانطباعات والأفكار:
– عزوف أهالي تلك القرى عن التقاط صور لهم ولمشاهد حياتهم اليومية وطقوسها. ولربما حملتهم على ذلك محافظة اجتماعية، قد تكون قديمة متوارثة، وانطوت تم انبعثت في صيغة جديدة.
– ربما يعود خلو صور الفتيان والشبان اليمنيين اليوم من مشاهد الحياة العامة في قراهم الجبلية، إلى انكماش تلك الحياة فيها، وتقشفها وضمورها وضآلتها أصلا. وهذا بسبب موجات الهجرة منها إلى المدن، وبقاء القرى على حالها القديمة في العمران والعمارة ونمط العيش والعزلة، بعدما غادرتها أجيال بين العشرين والأربعين من العمر، طلبا للعيش والعمل والإقامة في المدن.
وقد يؤكد هذه الظاهرة اقتصارُ حضور العنصر البشري في الصور على فتيان لم تتجاوز أعمارهم العشرين، وبعضهم يدمن أو يحترف هواية التصوير وبث الصور على وسائط التواصل الاجتماعي.
الصور الكثيرة التي يلتقطها الفتيان، كلماتهم التي يدوّنونها معلّقين عليها ومعرّفين بها وبأماكن التقاطها، تشي بأن هوايتهم التصوير وإدمانه ينطويان على شغفهم بجمال الطبيعة، بنقاء العيش وبهائه في قراهم الجبلية.
ونشاطهم هذا يبدو أنه محور أساسي لوجودهم وحياتهم المتقشفة، الرضيّة والمشبعة به، والخالية من سواه. ربما إلى جانب ذهابهم إلى مدارس تعليم ضعيف أو بدائي في قراهم العزلاء.
وتؤكد الصور التي يلتقطونها أن قراهم تتصل بالعالم بواسطة شبكة الإنترنت والهواتف المحمولة، أكثر بما لا يقاس من اتصالها بواسطة شبكة المواصلات البدائية ووسائل النقل (السيارة) التي يقل حضورها في الصور.
الصور أجمل من الواقع
ينصبُّ شغف الفتيان الجمالي على الطبيعة. طبيعة بلادهم وقراهم التي يصورونها ويمجّدونها بعبارات قليلة يكتبونها إلى جانب الصور. وهي عبارات وجيزة غير إنشائية، متقشفة ومستلة من قاموس سائر يمجّد الله الخالق على عطاياه. وينطوي هذا التمجيد على “وطنية” محلية وبلدية ومناطقية موضوعها جمال الطبيعة والافتتان بها.
وقد يلاحظ متصفّح الصور أن افتتان الفتيان بجمال مشاهد الطبيعة ينطوي على تعويض نفسي عن فراغ حياتهم من نشاطات ومشاغل وهوايات وعلاقات وأهواء في العلانية العامة، سوى ولعهم بالتقاط الصور.
لذا لا بد للمرء أن يتساءل: كيف يمكن هؤلاء الفتيان أن يعيشوا ويصرفوا أوقاتهم، دون هواتفهم المحمولة التي أتاحت لهم هواية التصوير وتحميل الصور على الشبكة العنكبوتية؟ ويخال المرء أنهم لكانوا يكابدون وحشة وفراغا كبيرين لولا هاتين الوسيلتين. ولولاهما لما وُلد شغفهم بالتصوير والصور الذي منحهم لغة تعبيرية جديدة، يفقدون من دونها ما يملأون به الفراغ والوحشة في قراهم الجبلية الصامتة المعزولة عن العالم والتواصل والاتصال به. والأرجح أن افتتان الفتيان الجمالي بالطبيعة ولّدته الصور، وما كانوا ليعرفوه ويختبروه ويعيشوه قبل وصول الهاتف المحمول وشبكة الإنترنت إلى قراهم.
ومن الأمثلة التي تشي بأن الصور تؤطر الواقع، تعيد صناعته، وتمنحه حضورا وقوة مضاعفين، ما روته صبية كانت تلتقط بكاميرتها مشاهد لتنزه الناس على رصيف كورنيش بيروت البحري: حين اقتربت المصورة من امرأة تجرُّ طفلها وأعربت لها عن جماله، قالت لها المرأة إن جماله لا يقارن بذاك الذي في صوره المعلقة في منزلها.
عزلة الأسلاف والأحفاد
من فتيان الشغف اليمني بالتصوير، من يسمي نفسه وحسابه الفيسبوكي “يوسف الجبل”. تتصدّر الحساب صورة للفتى يبدو فيها جالسا على مرتفع يطل على قريته. وهو يدوّن إلى جانب الصور التي يصورها وينشرها على حسابه: “عزلة الأسلاف، مديرية السلفية، محافظة ريمة غرب اليمن”، ويضيف عبارات قليلة تبين شغفه بالقرية وصورها.
و”عزلة الأسلاف” اسم قرية قد يكون وليد ثقافة صوفية قديمة في تلك القرية على المرتفع الجبلي الشاهق. ويمكن تخيل أن تصوف الأسلاف الطقوسي القديم وحلقاته في القرية، نظير تصوف فتيانها الأحفاد الجديد اليوم في انصرافهم الشغوف إلى تصوير الطبيعة. ففي اليوم الواحد ينشر “يوسف الجبل” عشرات الصور على فيسبوك. وهو دوّن إلى جانب إحداها: “أدرك تماما لو لفّيت (زرتُ) مدن العالم كله لن أجد الجمال والهدوء والراحة النفسية والطمأنينة كما في قريتي، قرية الجبل”.
وتكثر على حساب الفتى فيديوهات تصور رحلاته وأقرانه الفتيان في الطبيعة الجبلية الساحرة، ومدرجاتها الزراعية الخلابة، تقلّبات الطقس، الضباب والغيوم والنور والظلال والمطر في مشاهد باهرة.
“يوسف الجبل” واحد من يمنيين كثيرين ينصرفون إلى هواية تصوير طبيعة بلادهم وإعلانهم شغفهم بها. عن أحدهم، بسام قايد عباس، ننقل ما كتبه بشيء من تصرف شكلي يسهّل قراءته: “في هذه الطبيعة الخلابة الساحرة، رغم بساطة البيوت المتواضعة كأصحابها، قد تكون الحياة قاسية. لكن القلوب تتآلف وتلين في حب الأماكن والهواء البارد ونسماته التي تنعش قلوبنا. هنا تمتزج أجمل صور الطبيعة بكفاح الناس الطيبين في أرضهم. ورغم ما نعايشه في طول البلاد وعرضها، الحياة هنا ممتعة وسمحة بأجوائها النقية”.
نقلا عن مجلة “المجلة”