ممارسات فنية غاية في الإبداع وجديرة بالتأمل تلك التي قدمها الفنان الأمريكي أندرو وايث، «1917 2009»، فهو يعدّ أكثر الرسامين الأمريكيين شعبية، وعرف بلوحاته الواقعية التي يرسم فيها البشر والأماكن في ريف «بنسلفانيا ماين»، حيث تظهر أعماله مناظر هادئة غير مزدحمة، تمتد لمساحات شاسعة، وهي تتشابه في خطوطها العامة مع نمط الحياة الأمريكية القديم، وتضم رسوماته صوراً لمبانٍ قديمة بنوافذ عارية وسقوف مشققة، وقوارب متروكة على شواطئ مهجورة؛ إذ إن الفنان يلتقط أثر الحياة، كما يقوم بتصوير الناس الذين يعرفهم.
ولد وايث في شادزفورد ببنسلفانيا بولاية فيلادلفيا، وكان أبوه رساماً قديراً، وقد ورث عنه أندرو مهارة الرسم، ومن الطريف أن ابن أندرو، جيمي، هو الآخر رسام، وقد اشتهر وايث بكونه يرسم على نمط أسلوب الفنانين توماس إيكنز، ووينسلو هومر، وهما رسامان أمريكيان واقعيان من أواخر القرن التاسع عشر، وفي الأغلب فإن أعمال وايث كثيرة التفاصيل، ويستخدم ما يعرف ب«الدهان البيض»، الذي يسمح بإضفاء تفاصيل دقيقة على رسومه، وتعطي صوره سطحاً ناعماً رقيقاً، ويستخدم أيضاً طريقة تلوين مائية تسمى «الفرشاة الجافة»، وللفنان الكثير من اللوحات المهمة التي وجدت رواجاً كبيراً، وجعلت منه واحداً من أهم الفنانين الأمريكيين.
لوحة «عالم كريستينا»، رسمها وايث عام 1948، تعتبر واحدة من أهم اللوحات الأمريكية في منتصف القرن العشرين، بل يرى العديد من النقاد أنها الأشهر على الإطلاق بين الأعمال الأمريكية الحديثة، وتعدّ أيقونة فينة مميزة ذات شعبية كبيرة، وهي تنتمي إلى عالم الفنان نفسه وتصوراته الواقعية حول الفن الذي يجب أن يرصد الحياة وتحولاتها ومتغيراتها، وذلك ما ظل يفعله وايث الذي كان يعبر عن انتمائه للواقع والمجتمع، من خلال تلك الرسومات التي يلتقط فيها التفاصيل الحياتية الصغيرة والحميمية، فقد كان شديد الولع برسم وجوه الناس من حوله، ويشار إلى أنه قد رسم العديد من اللوحات لجارته التي تدعى هيليجا، ومن أشهرها «الضفائر»، والفنان واصل ذات شغفه بكشف أسرار الحياة عبر لوحة «عالم كريستينا»، بأسلوبية مشبعة بالنفحات الإنسانية والتصورات الفكرية، ويمثل هذا العمل بالنسبة للفنان نموذجاً لطريقته في النظر إلى الأشياء، وسبر غور الظواهر العادية والمألوفة، من خلال رؤية تتسم بالتكثيف والتفصيل والعمق.
في «عالم كريستينا»، تظهر امرأة مستلقية على أرض عشبية خضراء بلا أشجار تزحف باتجاه المنزل، وهي ترتدي فستاناً زهرياً، وتتشبث بالأرض حتى يبدو أنها لا تتحرك، ويظهر في اللوحة بعض المنازل الأخرى الصغيرة البعيدة نسبياً، هي التي تقصدها كريستينا وتريد الوصول إليها، ويلاحظ المشاهد أن المساحة واسعة، بينما البيوت صغيرة، فالفنان يريد أن يقرب للمتلقي فكرة بعد المسافة بالنسبة لهذه الفتاة، فهي بلا شك تبذل جهداً مضنياً وكبيراً.
حكاية
ولعل السؤال الأول الذي يباغت ذهن المشاهد للوحة هو لماذا تزحف الفتاة بتلك الطريقة على العشب؟ وفي الواقع أن تلك الشخصية هي امرأة حقيقية تدعى كريستينا أولسون «1893 – 1968»، كانت تعاني من مرض شلل الأطفال وضمور العضلات، وتصادف أن شاهد وايث في عام 1948 جارته، كريستينا المشلولة تجمع التوت البرّي ثم تتجه صوب المنزل زاحفة، وهي تقطع بدأب كبير الحقل الشاسع، وقد كانت تلك الفتاة رهينة البيت بسبب المرض، لا تغادره أبداً، غير أنها قررت أن تتخلص من سجن المنزل، وتنعتق من رقابة الأسرة ومشاعر الشفقة التي تكبلها بها، وأن تخرج إلى الخارج حتى إن كانت وسيلتها في ذلك أن تسير زحفاً، لقد أرادت أن تتحرر من أثقال حياة العجز، وهو الأمر الذي رصده الفنان فعمل على تصويرها وهي تسير زاحفة متحدية الإعاقة يحدوها الأمل بعالم مختلف، ولعل اسم اللوحة نفسه «عالم كريستينا»، يشير إلى خصوصية حياة تلك الفتاة التي اقتحمها الفنان وهو يراقبها من أجل أن يخرج بهذا العمل الفني الذي يحرّض المرء على التأمل؛ إذ إن وايث أراد أن يشرك المشاهد في تلك المعاناة عبر هز مشاعره من أجل أن يتعاطف مع الفتاة.
أرسم حياتي
«أنا أرسم حياتي»، هكذا تحدث الفنان عن أعماله الإبداعية، فهو لا يفعل غير أن يقوم بترجمة ما يصادفه ويلفت نظره إلى عمل فني، ولعل مشهد هذه الفتاة القوية وهي تزحف على الأرض بدلاً من أن تستسلم للمرض كان له تأثير قوي عليه، فقد ذكره المشهد بحياته الشخصية والمعاناة التي وجدها عندما كان صغيراً، حيث كان معتلّ الصحة في عمره الباكر، فنشأ معزولاً في المنزل؛ إذ تخوفت عليه أسرته من المرض، لم يذهب إلى المدرسة فتولى أمر تعليمه في البيت عدد من المدرسين الخصوصيين، وكان والده نويل وايث مصوراً قديراً مشهوراً برسم الأعمال التاريخية، وتلك التي تتناول الغرب الأمريكي، وكذلك اللوحات المصاحبة للنصوص في المجلات والكتب والإعلانات، وكان الصبي وايث حينها يقضي معظم الوقت في مرسم والده الملحق بالمنزل، وفي سن الرابعة بدأ يرسم قبل أن يتعلم الكتابة، وتولى والده تلقينه أصول الصنعة، فأجاد الرسم بالألوان المائية والزيتية.
كان والده هو أستاذه الوحيد وقد زرع فيه عشق المناظر الطبيعية والتمسك بقيم وتقاليد فن التصوير، وأحب الشعر والموسيقى وعشق مشاهدة الأفلام السينمائية التي أذكت خياله البصري، وقد أراد له والده أن يحذو حذوه في تصوير اللوحات للكتب والمجلات، وبالغ في السيطرة على حياته حتى أنه قال عن هذه الفترة من حياته بأنها كانت أشبه بالسجن، ولكن كان هدف الفتى الصغير أن يكون فناناً وليس مصور كتب ومجلات، فكان أن طوّر أسلوباً شديد الواقعية يهتم بالبناء العام للوحة، كما يعنى بالتفاصيل الدقيقة، وراح يعبر في أعماله عن الطبيعة من حوله، وصار يهتم بمفهوم عزلة الإنسان وضرورة الكفاح ضدها، وكان في هذا السياق يعبّر عن عزلته الذاتية وعالمه الداخلي؛ لذلك وجد في «عالم كريستينا»، موضوعاً فنياً يعضد رؤيته الفكرية على ضرورة أن يتخلص الإنسان من جميع العوائق من حوله، ويحطم أغلاله ويهزم عزلته.
عاشت الفتاة كريستينا تجربة الإعاقة والمعاناة، معتمدةً على إصرارها وقوّة عزيمتها، وبعد وفاتها كتب عنها وايث قائلاً: «إنها كانت امرأة شجاعة لم تكن تطلب شيئاً من أحد، وكانت على الدوام كريمة ومعطاءة»، تلك هي حكاية بطلة هذه اللوحة الأيقونة التي تعتبر اليوم جزءاً من المعروضات الدائمة في متحف الفن الحديث في نيويورك.