هيام بنوت*
مع غياب الإنتاج والرقابة وعدم القدرة على ضبط الإصدارات الفنية الجديدة اكتسحت الأغاني المبتذلة التي تتضمن ألفاظاً وعبارات سوقية ونابية وإيحاءات وشتائم على مواقع التواصل الاجتماعي حتى إنها تفوقت على أعمال النجوم من حيث مستوى المشاهدة والاستماع، وأبرزها أغاني المهرجانات وبعض الأغاني اللبنانية التي تؤديها مجموعة من مشاهير الـ”سوشيال ميديا”، خصوصاً “تيك توك”.
يملك مقدمو هذه الأغاني قاعدة شعبية عريضة وجمهوراً يحضر حفلاتهم ومهرجاناتهم وينتظر أعمالهم، وهم بدورهم لا يبخلون عليه بإصداراتهم الجديدة لأنهم ينتجون على حسابهم الخاص وبكلفة متواضعة لا تتعدى الـ300 دولار للأغنية الواحدة.
صحيح أن الأغاني السفيهة والهابطة لا ترتبط بزمن معين ولطالما عرفت الساحة الفنية حتى في زمن الكبار أغاني من هذا النوع تدرج على “يوتيوب” تحت اسم “أغاني ممنوعة” من بينها أغانٍ أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها إباحية وخادشة للحياء، لكنها لم تكن بالوفرة نفسها التي هي عليها في زمن الـ”سوشيال ميديا” الذي أسهم بصناعة “فنانين” يسجلون أعمالهم تحت سلالم بيوتهم.
فهل يمكن أن تشهد الساحة خلال المرحلة المقبلة مزيداً من الانحدار الفني؟ وكيف ينظر النقاد وصناع الأغنية إلى انتشار موضة الأغاني البذيئة؟
الجري وراء الترند
الشاعر المصري أمير طعيمة يقول إنه يركز على عمله ولا يهتم إلا لما يقدمه “حتى في عز المهرجانات كتبت أغنية ’من أول دقيقة‘ لأن دوري كشاعر هو تقديم الفن بالطريقة التي ترضيني ولا أهتم لأي موجة موقتة بل أواجهها بأعمالي”.
بينما يشير الشاعر المصري أحمد حسن رؤول إلى أن “الانحدار الذي تشهده الأغنية لا يقتصر على مصر، ومن يقف وراءه جيل يعتبر أن الجرأة مفتاح النجاح ولكي ينجح يفترض أن يتصدر ’الترند‘ ولكي يتصدره عليه أن يقدم أغاني مختلفة والأغنية المختلفة من وجهة نظره هي الأغنية الصادمة”، ويرى رؤول أن “هذه الحال سادت بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي والإقبال على سماع الأغاني الغربية التي تتضمن في معظمها ألفاظاً نابية، وهذا الجيل يقول إنه يريد أن يقدم تجارب شبيهة بتجارب الكبار والعالميين من خلال تقديم أغانٍ فيها إيحاءات وألفاظ لا جدوى منها”، ويستدرك أن “الاستمرارية غير ممكنة لمن يقدمون هذه الأغاني، بل هم يضربون ثم يختفون ولا يستمرون كما يظنون، مثلاً حسن شاكوش وعمر كمال لم يعد لهما أي وجود على الساحة كما حصل مع غيرهم ممن سبقهما مثل شعبان عبدالرحيم الذي لا نتذكر أغنية واحدة له، ولم تحقق أي أغنية من أغاني المهرجانات نجاحاً حقيقياً”.
ويشدد رؤول على أن أغاني المهرجات هي مجرد موضة ولا يصح إلا الصحيح فـ”الغناء صار اليوم سهلاً ولا توجد معوقات تحول دون أن يطرح الفنان أغنية على أي وسيلة من وسائل التواصل الأخرى وسط غياب تام للرقابة مما أسهم في انحدار الأغنية، والمسؤولية يتحملها الفنان لأنه ينتج أعماله بنفسه ولا توجد شركات إنتاج تفرض عليه أغنية معينة وبين فترة وأخرى تنتشر موضة معينة نتيجة الانفتاح على الغرب من بينها غناء الراب الذي راج بقوة في مصر بهدف التشبه بالفنانين الأجانب وتقديم أغانٍ مبتذلة على طريقتهم وحتى ويغز الذي حقق نجومية في وقت من الأوقات اختفى عن الساحة”.
الكلمة للتاريخ
الشاعر الغنائي نزار فرنسيس يرى أن الأغاني المبتذلة لطالما كانت موجودة، لكنها لم تصل إلى الناس، بينما هي تتصدر اليوم بوجود الـ”سوشيال ميديا” التي لا تعترف بمحاذير وممنوعات حتى إنها جعلت صوت الغبي يتساوى مع صوت الذكي، ويقول إن “الأخلاق والتربية والضمير هي المسؤولة عن انتشار هذه الظاهرة والإنسان الخلوق يعرف اتجاهه جيداً، خصوصاً صناع العمل الذين يجب أن يتحلوا بالأخلاق الرفيعة وأن يقدموا أعمالهم على هذا الأساس، أما غير الخلوقين منهم فإنهم يقدمون أعمالاً لفنانين يشبهونهم وبمثل أخلاقهم ومستواهم”.
ويضيف أن “الأغنية المبتذلة كانت موجودة حتى في زمن العمالقة، كان هناك فنانون يقدمون أغاني بذيئة لا يجرؤ أحد اليوم على غنائها، لكن لم تتم الإضاءة عليها حينها لأن الإذاعات ومحطات التلفزة كانت تحرص على بث الأغاني الراقية، لكن شعبية أصحاب تلك الأغنيات كانت واسعة على الأرض وكانوا يصدرون ’الكاسيتات‘ ويبيعونها بأثمان باهظة”.
ويشدد فرنسيس على أن “هذا الوضع لا يمكن أن يؤثر في مستقبل الأغنية العربية لأن البقاء للأفضل والتاريخ هو الذي ينصف بدليل أنه لم يبقَ من أغاني الستينيات إلا أغاني العمالقة، ومن بين 10 أغانٍ تصدر اليوم هناك أغنيتان فقط تستحقان الاستماع إليهما وبعد 10 أعوام لن يبقى غيرهما”.
ثقافة المرحلة
الناقد والصحافي خالد شاهين اعتبر أن انتشار هذه الأغاني يعكس ثقافة المرحلة التي تعيشها مصر والدول العربية والعالم بأسره “العالم العربي جعل من محمد رمضان نجماً وقدوة والأعلى أجراً مع أنه لا يملك صوتاً جميلاً ولا قيمة له في السينما ولا يقدم على المسرح سوى التعري والاستعراض ويرفع قدمه في وجه الجمهور”، ولفت إلى أنه “عندما ظهر عمرو دياب وقبله هاني شاكر وعلي الحجار ومحمد منير وجهت إليهم انتقادات شديدة لأن الجمهور كان اعتاد على أغاني أم كلثوم وفريد الأطرش وغيرهما ومع الوقت اكتشفنا أنه جيل محترم وعظيم لأنه غيّر في نوع الموسيقى وفي الثقافة نفسها ولكنه حافظ على الكلمة”.
وأكد “حالياً نحن نمر في مرحلة سيئة جداً بقيادة ما يعرف بأغاني المهرجانات وهناك نوع آخر يطرح تحت تسمية أكثر شياكة ويحتل المرتبة الأولى عند الجمهور وهو موسيقى الراب والتراب كالتي يقدمها ويغز وهو الفنان الأعلى أجراً في مصر، ولقد أخبرني أحد متعهدي الحفلات بأنه الفنان الوحيد الذي يتعاقد معه وهو مطمئن بأنه سيكسب المال، بينما يجازف مع عمرو دياب ويمكن أن تكون حفلته خاسرة”.
محاولات السيطرة
الأمور خرجت عن السيطرة، كما أكد شاهين، “في حال تعرض أي فنان للمنع أو الإيقاف يمكن أن يحيي حفلات خارج مصر وأن يطرح أغانيه على ’يوتيوب‘ فتحظى بنسبة مشاهدات عالية جداً من الجيل المراهق الذي يميل إلى كل ما هو غير طبيعي، ويفرح عند سماع أغنية تتضمن كلمات غير سوية كما في أغنية عمر كمال ’أشرب خمور وحشيش‘”، ورأى أن “هذه الفئة من الجمهور هي الأكثر استخداماً لمواقع التواصل الاجتماعي حيث تنتشر هذه الأغاني، ومن هم دون 18 سنة لا يتقبلون عمرو دياب ورامي صبري ويفضلون ويغز ومروان موسى ومن يقدمون أغاني المهرجانات مثل عمر كمال وحسن شاكوش”.
وحمل شاهين الفنان مسؤولية انتشار هذه الظاهرة “فالإنسان ابن بيئته والغالبية العظمى من الفنانين الذين يقدمون أغاني المهرجانات ينتمون إلى الطبقة الشعبية وأنا لا أقلل من شأن أي طبقة لأن بعض كبار الفنانين كانوا ينتمون إليها وأبرزهم عبدالحليم حافظ الذي كان أيضاً يتيم الأب والأم، لكن في الماضي كانت هناك قيود من المجتمع وكان الفنان يلتزم بها بطلب من شركات الإنتاج، واليوم اختفت هذه الشركات وأصبح الفنان ينتج على حسابه، بخاصة أن كلفة الأغنية لا تتعدى 200 أو 300 دولار ويسجلها في أي استوديو تحت السلم ثم ينشرها على مواقع التواصل الاجتماعي ويتحول إلى فنان مهرجانات إذا نجحت أغنيته”.
ورأى أن “النقابات الفنية تحاول قدر المستطاع السيطرة على الوضع، وقبل مدة صوّر فنان مهرجانات اسمه كزبرة أغنية تتضمن كلاماً مبتذلاً ووضع فيها صورة للعالم المصري أحمد زويل، مما أثار حفيظة عائلته وتقدمت بشكوى إلى نقابة الموسيقيين، ولأن كزبرة ليس عضواً فيها لكنها توافق على إعطائه تصريحاً كل ستة أشهر لأنها تحصل على المال من خلال حفلاته، تقدم النقيب ببلاغ للنيابة العامة لكي تحاسبه”، وأشار شاهين إلى أن “الطوفان أشد وأقوى من النقابة وهي لا تستطيع السيطرة على كل شيء، خصوصاً أنه تصدر يومياً مئات وربما آلاف الأغنيات تحت مسمى مهرجانات وبرأيي هذا الوضع سيزداد سوءاً عندما يتدخل الذكاء الاصطناعي وليس مستغرباً أن نسمع عبدالحليم وأم كلثوم يغنيان ’الطشت قالي‘”.
ولفت إلى أن “حمو بيكا يحصل شهرياً من ’يوتيوب‘ و’فيسبوك‘ و’تيك توك‘ على مبلغ بين 15 و20 ألف دولار وهو جالس في بيته، وأتمنى ألا نتحسر خلال الأعوام المقبلة على الأعمال التي نسمعها اليوم، وأنا أرى أن آخر جيل من المطربين في مصر هو جيل تامر حسني ومحمد حماقي ورامي صبري وهيثم شاكر وزملاؤهم ومن برزوا من بعدهم مثل كارمن سليمان ومحمد رشاد وأحمد جمال هم مجرد محاولات وفشلوا جميعاً مع أنهم يملكون موهبة كبيرة لأنهم ظهروا في مرحلة تغيب فيها شركات الإنتاج الموسيقي ولم يعتمدوا على أنفسهم ولم ينتجوا لأنفسهم كما فعل فنانو المهرجانات”.