تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » القراءة.. سلوة الأحزان وزاد الفقراء في «حكاية جديدة»

القراءة.. سلوة الأحزان وزاد الفقراء في «حكاية جديدة»

 

ممارسات فنية شديدة التميز، تلك التي حملتها أعمال الرسام الروسي نيكولاي بوجدانوف بيلسكي «1868-1945»، أحد أبرز الفنانين الروس في العصر الحديث، على الرغم من التعتيم الكبير على حياته ومسيرته الإبداعية، ولد في قرية روسية بسيطة، ودرس في مدرسة سيميون راشينسكي للفنون الجميلة، وتعلّم رسم الأيقونات، ودرس الرسم الحديث في مدرسة موسكو للرسم والنحت والعمارة بين عامي 1884 و1889، وتلقى تعليمه في الأكاديمية الإمبراطورية للفنون في سانت بطرسبورغ بين «1894 و1895»، كما عمل في استديوهات خاصة في باريس في أواخر العقد الأخير من القرن ال19، وكان عضواً في العديد من الجمعيات الفنية البارزة، كما أسس جمعية «أرخيب كويندزي» في عام 1909.

انتمى بيلسكي إلى حياة الفقراء والفلاحين، فهو ابن تلك البيئة وظل لصيقاً بها، حتى أطلق على نفسه لقب «الفلاح»، وتخصص في رصد حياة الطفولة، ورسم لوحات من أجل تعليم الأطفال. في سن ال16 رسم الفنان الشاب أولى لوحاته «غابة التنوب»، وقد وجدت صدى كبيراً، فتم شراؤها على الفور، وكان بيلسكي محظوظاً لأن لوحاته حققت نجاحاً تجارياً، فمنذ سن 18، كانت الأموال التي تم جمعها كافية للصرف على تدريبه وطعامه، وأصبح مدرساً وأكاديمياً منذ عام 1903، وعضواً فاعلاً في أكاديمية الفنون بموسكو في 1914، توفي بيلسكي بعيداً عن وطنه، وشيّع ودُفن في برلين في ألمانيا في المقبرة الروسية.

ومن اللوحات الآسرة لبيلسكي، واحدة بعنوان «حكاية جديدة» أو «حكاية خرافية جديدة»، (زيت على قماش)، وتعد من أهم لوحاته وأكثرها إثارة، وقد قام برسمها في بداية حياته الفنية عندما تخرج في مدرسة موسكو للفنون، وهي تنتمي إلى العالم الذي أحبه وهام به، مجتمع القرية والريف والأطفال البسطاء الذين يعيشون حياة مختلفة عن نظرائهم في المدن، ففي الريف يسود الفقر والبؤس، وقد عبر بيلسكي عن تلك العوالم بطريقة بارعة ومتقنة إلى حد أن لقب ب«رسام القرية»، وعلى الرغم من حقيقة أنه نال احترام وتقدير طبقة الأرستقراطيين وأفراد العائلة الإمبراطورية، الذين طلبوا غالباً أن يرسم لهم لوحات وبورتريهات، فإنه كان يميل دائماً إلى رسم أعمال ووجوه من القرية، حيث أشار النقاد إلى نجاحه الكبير في نقله لروح القرية الروسية، وخاصة رسمه للأطفال، كما هو في لوحة «على باب المدرسة» التي تصور عالماً محتشداً بالبؤس، حيث يقف طفل من الفلاحين على باب مدرسة يراقب الطلاب من سنه وهم يتلقون التعليم النظامي الذي حُرم منه، وهو جو شبيه بفضاء لوحته «حكاية جديدة».

ولئن كان الفنان قد أحب عالم الأطفال وعبر عنهم في لوحاته، فإنهم بالمثل قد بادلوه تلك المحبة، وكانوا يفرحون عندما يقوم برسمهم، وكان على الدوام يحمل في جيبه الحلوى والمكسرات، ليقدمها هدية لهم، وكان ذلك الأمر يفرحهم بشدة ويحمسهم للرسم، وقيل إن بيلسكي، عندما رسم هذه اللوحة، كان يشعر بحنين شديد للقرية والطفولة، رغم أنه كان في بداية شبابه، وقد أحب الناس بصورة عامة، وكانت له شعبية كبيرة تسببت له في العداء مع النظام الروسي الجديد في أعقاب ثورة 1917 البلشفية التي عارضها منذ البدء، ما اضطر الفنان إلى مغادرة وطنه الذي أحبه بشدة في 1921، وتوجه نحو بلد آخر بصحبة أهله، ولكنه ظل محتفظاً بذلك الحنين الشديد لوطنه، وكرّس حياته في المنفى من أجل رسم الفلاحين الروس، وبصورة خاصة وجوه الأطفال التي لم تغب عن ذهنه، وفي كل عمل، كان يعمل على تصوير الصغار بطريقة مؤثرة للغاية وغير مزخرفة، فقد أراد أن ينقل واقعهم كما هو، كما فعل في «حكاية جديدة»، وقوبلت لوحاته بنجاح كبير في معارض مختلفة حول العالم، ولكن ليس في روسيا، حيث تم تجاهله تماماً، وحتى في عام 2000، عندما نُشر القاموس الموسوعي «فنانون روس»، لم يذكر اسم بوجدانوف بيلسكي ضمن الفنانين الروس.

القراءة.. سلوة الأحزان وزاد الفقراء في «حكاية جديدة»

أمسيات القراءة

تظهر اللوحة عدداً من الأطفال وهم يطلعون على كتاب، في جو عنوانه العريض هو الفقر والبؤس، حيث يظهر الصغار في العمل وهم يرتدون ملابس مهترئة وقديمة ومتسخة، في غرفة تبدو غير مرتبة، ولكنهم في شغل شاغل حول ما يدور حولهم، فقد انصب تركيزهم على الكتاب الذي يمسكه أحدهم، وهو الذي يقوم بمهمة القراءة على مسامع الأطفال، وذلك الصغير يقوم بسرد وقص حكاية جديدة، وهو عنوان اللوحة، الذي يشير إلى أن جلوس الأطفال بهذه الكيفية من أجل الاستماع إلى حكاية، هي عادة تبدو يومية، ففي كل مرة هنالك قصة جديدة تروى، تحدثهم عن عالم آخر غير الذي يعيشونه، وتسافر بهم إلى عوالم مختلفة، وتمدهم بالمعرفة والثقافة، فتلك هي وسيلتهم لمعرفة ما يدور بعيداً عنهم، لذلك فإن الانتباه الشديد هو سيد الموقف في اللوحة، رغم ضيق الحال والبؤس، فالقراءة هي وسيلتهم في أمسيات وليالٍ عديدة، لكي ينسوا أحزانهم، وهي الأمل المشروع نحو مستقبل يتمنونه واعداً.

وصف

يرتدي الأطفال في اللوحة ملابس متشابهة، بألوان مختلفة ما بين الأبيض والأحمر والأزرق، وبينما كان الأطفال في وضعية الجلوس وهم يستمعون للحكاية، فإن أحدهم كان ممدداً على الأرض، وكأن التعب أو الإرهاق أو النعاس قد نال منه، الأرضية الخشبية متسخة وعليها كتب وكراسات ممزقة متناثرة، قطة تتمدد على أحد تلك الكتب، وهنالك ملابس معلقة بإهمال على الجانب الأيسر من اللوحة، فيما يظهر عجل صغير على باب الغرفة، حيث أراد الفنان تعميق صورة الفلاحين لدى المشاهد، وقد أولى بيلسكي اهتماماً كبيراً بوجوه الأطفال، مصوراً بدقة أصغر التفاصيل فيها، وجاء الوضع في الصورة بطريقة ريفية هادئة، والألوان مثيرة، ولكنها ليست مفرطة، ويبدو واضحاً في اللوحة ذلك الحب الكبير والحنان المتبادل بين الأطفال، وهو ما أراد الفنان إيصاله إلى الجمهور.