تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الرسام موديلياني أبدع لوحات كثيرة بتشجيع من تاجره

الرسام موديلياني أبدع لوحات كثيرة بتشجيع من تاجره

الرسام موديلياني أبدع لوحات كثيرة بتشجيع من تاجره

 

“الرسامون الكبار هم الذين يصنعون التجار الكبار”، قال مرةً تاجر الفن الألماني دانييل كانفايلر، بتواضع. لكنّ العكس صحيح أيضاً، وإن لم يتوقف مؤرخو الفن الحديث إلا نادراً عند الدور المهم الذي لعبه بعض تجار الفن، خلال النصف الأول من القرن الماضي، في اكتشاف وجوه هذا الفن الكبرى ودعمها مادياً لممارسة فنها، وأيضاً في توجيهها فنياً وتعزيز هذا الميل من عملها بدلاً من ذاك، وبالنتيجة، عند مساهمتهم القيّمة في بلورة جماليات الحداثة الفنية ومفرداتها.

نستحضر في هذا السياق الفرنسي أمبرواز فولار الذي كشف للعالم عبقرية كل من سيزان وغوغان وفان غوغ وماتيس، ثم الألمانيين كانفايلر وويلهلم أودي اللذين اكتشفا مواهب هنري روسو وبيكاسو وجورج براك وآخرين، وساهما في فرض الخطوات التشكيلية الجريئة والمبتكرة لكل منهم داخل المحيط الفني الأوروبي. فالفرنسي بول غيوم الذي وفّر انقشاعاً داخل هذا المحيط لجورجيو دو كيريكو ومختلف وجوه “مدرسة باريس”، وفي مقدّمها الرسام البوهيمي أماديو موديلياني (1884 ــ 1920) الذي يدين لهذا التاجر ومجمّع الفن، بالكثير، ليس فقط على المستوى المادي، بل الفني والفكري أيضاً، وإن لم تدم علاقتهما الخصبة طويلاً.

هذا ما يتجلى بقوة في المعرض المثير الذي ينظمه حالياً متحف “لورانجوري” الباريسي تحت عنوان “موديلياني، الرسام وتاجره”، ويهدف إلى تسليط الضوء على تلك الفترة المهمة من مسيرة موديلياني التي اضطلع بول غيوم خلالها بمهمة الترويج لفنه، أثناء منتصف العقد الأول من القرن الماضي، وعلى الطريقة التي يمكن بها لهذه العلاقة أن تنير فنه وسيرورة تطوره. علاقة تعكس خصوبتها البورتريهات الزيتية الخمس التي أنجزها الفنان لصديقه، ويمكننا اليوم مشاهدتها في معرضهما الباريسي، إلى جانب لوحات ورسوم كثيرة له، ساعده غيوم على بيعها، كالبورتريهات التي رسمها لشخصيات فنية وأدبية كبرى في باريس آنذاك، وأخرى لأشخاص مجهولين أو للمرأتين اللتين شاركتاه حياته، أي بياتريس هاستينغز وجان إيبوتيرن. أعمال تتوزع على صالات أربع، وتجاورها صور فوتوغرافية ووثائق مهمة يُعرض بعضها للمرة الأولى.

الصداقة والصور

في الصالة الأولى، نعرف أن غيوم تعرّف إلى موديلياني عام 1914 عن طريق ماكس جاكوب، وأصبح تاجره والداعم الأساسي له منذ مطلع 1915. نعرف أيضاً أنه استأجر له محترفاً في شارع رافينيان الباريسي، بات شهيراً بفضل الصور التي التقطها الصديقان فيه معاً، بوضعيات مختلفة، قرب اللوحات المعلقة على جدرانه. في المقابل، رسم موديلياني بورتريهات عديدة لتاجره الجديد، لا تقتصر على اللوحات الزيتية الخمس التي سبق ذكرها. أعمال تحضر في هذه الصالة برفقة شهادات فوتوغرافية يظهر المحترف المذكور في بعضها، وغاليري “بول غيوم” الباريسية في بعضها الآخر، تحضر أيضاً مختارات من لوحات الفنان ورسومه ومنحوتاته التي مرّت بين يديّ غيوم، ويتجاوز عددها المئة، الأمر الذي يعكس مدى انغماس هذا الأخير في الترويج لفن صديقه، ويبيّن أيضاً شغفه بهذا الفن.

الصالة الثانية من المعرض، التي تحمل عنوان “أقنعة ووجوه”، تنير الفترة ما بين 1911 و1913 التي كرّس موديلياني وقته فيها للنحت، متأثراً بعمل برانكوزي. نشاط شبه حصري لم يمنعه من إنجاز عدة رسوم بتلك الأشكال المبسّطة التي ألهمت الأسلوب المجزّأ أو الممدد للوحاته اللاحقة، التي تظهر فيها رؤوس وأجساد نسائية عارية. أعمال يحضر بعضها في هذه الصالة، وتعكس بأسلوبها الفريد اهتمام صاحبها بالقطع الإفريقية البدائية التي كان غيوم سبّاقاً في اعتبارها تحفاً فنية خالصة، وفي عرض نماذج منها إلى جانب أعمال فنية أوروبية حديثة.

في الصالة الثالثة، نعود إلى العام 1906 الذي وصل موديلياني فيه إلى باريس، وكان في سن الـ 21. ونظراً إلى الطابع الكوزموبوليتي لهذه المدينة آنذاك، وإلى فورة الفنون فيها، استطاع بسرعة خط مسيرة فنية فريدة داخلها، مستفيداً إلى أبعد حد من نبضها الحي، ومن المحاورين الفنيين والأدبيين الذين وضعتهم في طريقه، مشكّلة بذلك أرضية خصبة له لتطوير فنه. في المقابل، ونظراً إلى تشكيل هؤلاء المحاورين خير بانوراما لشخصيات تلك الحقبة المجيدة (برانكوزي، سوتين، كيسلينغ، خوان غري، جاك ليبشيتز، كوكتو، بيكاسو، دييغو ريفيرا، ماكس جاكوب…)، تحوّل الفنان، برسمه كل واحد منهم، إلى شاهد ثمين على غليانها.

العري فناً

وفي الصالة الأخيرة من المعرض، ننتقل إلى العام 1916 الذي حظي موديلياني فيه بدعم تاجر آخر، ليوبولد زبوروفسكي، وانطلق في رسم لوحات العري النسائي، الشهيرة اليوم. ومع أن حسّية هذه الأعمال تعكس التحرر المتنامي للمرأة آنذاك في بيئة اجتماعية معينة، إلا أنها بقيت صادمة لكثيرين، كما تجلى ذلك لدى عرضها عام 1917 في معرض الفنان الفردي الوحيد في باريس، واضطرار منظّمي المعرض إلى سحبها بسرعة منه بسبب خدشها “حياء” معظم زواره، من جراء ظهور العانة الجلي فيها.

وخلال الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، ونظراً إلى تدهور صحة موديلياني، حثّه زبوروفسكي على مغادرة باريس، التي كانت عرضة لغارات جوية، إلى الشاطئ اللازوردي. ومع أنه لم يكن متحمساً لهذه الفكرة، لكنه خضع في النهاية لمشيئة تاجره، لأن العديد من أصدقائه كانوا قد سبقوه إلى الجنوب الفرنسي، فرحل عن العاصمة الفرنسية مع رفيقة دربه الجديدة، الرسامة جان إيبوتبرن، وكانت حاملاً منه آنذاك. سفر ميمون لأنه أنجز في مدينة نيس بعضاً من أهم لوحاته، وهي بورتريهات لأطفال وخدم وأشخاص مجهولين، إضافة إلى مشاهد طبيعية. وفي تلك الأثناء، وحتى وفاته عام 1934، بقي بول غيوم سنداً رئيسياً له، لشرائه منه لوحات كثيرة ومساعدته على بيع لوحات أخرى.

وبعد وفاة موديلياني، تابع غيوم ترويجه لفن صديقه بحماسة نادرة، ليس فقط في أوروبا، بل في أميركا أيضاً، وهو ما ساهم بقوة في ترسيخ شهرته. شهرة مستحقّة نظراً إلى قيمة فن هذا العملاق الملعون الذي تمكن، على رغم رحيله المبكر عن هذه الدنيا، من ابتكار أسلوب تشكيلي رائع يمثل حصيلة فريدة من نوعها لجماليات العصرين الكلاسيكي والنهضوي الإيطاليين، ولأساليب الفن الأفريقي البدائي ومختلف تيارات ما بعد الانطباعية، كالوحشية والتكعيبية، وبالنتيجة، لعبقريته في مصالحة التقليد والحداثة، وسعيه الثابت إلى بلوغ تناغم لا زمني داخل لوحاته، من خلال تصفية خطوطها وألوانها. أسلوب يفسّر افتتاننا بتلك النساء العاريات اللواتي انبثقن من التواءات خطّه ودفء ألوانه، وبالبورتريهات الأمامية الغزيرة التي أنجزها بملامح ممددة إلى حد التشويه، وبعيون غائبة في معظم الأحيان، كما لو أن الشخصيات المرسومة في حالة نشوة أو انخطاف.