يعد الفنان فينسينت فان جوخ «1853 ـ 1890»، أحد أهم عباقرة الفن الحديث، ولا تزال أعماله تجد مساحات كبيرة من التناول من قبل المؤرخين والنقاد والمشتغلين في مجال الفنون، على العموم، إضافة إلى جمهور الفن، حيث تعتبر لوحاته من أغلى وأهم القطع الفنية في العالم، للعبقرية التي كان يتصف بها، وحياته الثرية، وتقلباته العاطفية، إذ كان يمتلك حساً مرهفاً، انعكس على أعماله، بحيث يستطيع المشاهد من خلال توظيف الألوان والخطوط والضوء أن يكتشف الحالة المحددة التي دفعت الفنان إلى رسم العمل.
كل أعمال فان جوخ هي انعكاس لدواخله، وتعبير عن موقفه المتأمل في الطبيعة، لذلك تحتشد لوحاته بالرؤى والأفكار، فقد كان الفنان يراقب، عن كثب، الفلاحين أثناء نشاطهم في عمليتي الزراعة والحصاد، وفي حركتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وكان يقضي وقتاً طويلاً متأملاً تلك العوالم، وكان تأثيرها فيه كبيراً، الأمر الذي أدى إلى إنتاجه الكثير من اللوحات.
عانى فان جوخ اعتلال الصحة العقلية في عام 1888 ودخل مستشفى للأمراض العقلية من مايو 1889 إلى مايو 1890، في جنوب فرنسا، فقام كل من مدير المستشفى، الدكتور بيلون، وشقيق فان جوخ ثيو، بِحثّ الفنان العظيم على الرسم للمساعدة في شفائه في فترة لم يكن فيها يستطيع الرسم، فكان أن لجأ إلى نسخ أعمال أخرى، بما في ذلك الصور والنقوش، وكان نتاج ذلك الكثير من الإبداعات التي ظلت تدهش الناس في كل حين، حيث كانت تلك الحقبة شديدة الخصوصية في حياة فان جوخ، قدم فيها بذلا وعطاء فنياً مختلفاً عبّر فيه عن نفسه ودواخله، وتأويلاً للطبيعة من حوله في سياق التيار الانطباعي، فقد كانت لحظة انكباب الفنان على الرسم هي من لحظات الإشراق النادرة في عالم شديد العتمة عاشه فان جوخ.
لوحة «الطبيب غاشيه»، تعتبر واحدة من أهم الأعمال الفنية لفان جوخ، وقد انتهى من رسمها عام 1890، وهي قطعة نادرة لا تزال تشغل أذهان النقاد والمؤرخين الفنيين، حيث إن جوخ رسمها في ذلك الوقت الصعب من حياته، عندما كان يعاني نوبات الجنون والعصاب، بعد خروجه من المستشفى، غير أن العمل جاء بصورة مدهشة، لا يجسد شخصية الطبيب فقط، بل ويعبّر عن الحالة النفسية للفنان نفسه، وكان الطبيب بول غاشيه «موضوع البورتريه»، اعتنى بفان جوخ خلال آخر أشهر قضاها من عمره، بعد خروجه من المستشفى، بل إن فان جوخ لم يكتف ببورتريه واحد لهذا الطبيب، بل رسم له نسخة أخرى من العمل الفني نفسه، بحيث أنهى اللوحتين في عام 1890، واللوحتان تصوران الدكتور غاشيه جالساً عند طاولة، مسنداً رأسه على يده اليمنى، وبالرغم من تشابه العملين إلا أنه من السهل التمييز بينهما من ناحية اللون والأسلوب الفني، فاللوحة التي نحن بصددها، جاءت تحفة متكاملة من حيث توظيف وتوزيع الألوان وضربات الفرشاة بالأسلوب الفريد الذي عرف به فان جوخ.
*خلفية
بعد أن خرج فان جوخ من المستشفى، قام شقيقه ثيو بالبحث له عن بيت ليقيم فيه، وكان أن أرسله ليقيم مع الطبيب بول غاشيه في أوفير، والذي كان يمتلك منزلين، وكان غاشيه مهتماً بالعمل مع المبدعين، غير أن فان جوخ لم يكن مرتاحاً في البداية، حيث لم يكن انطباعه الأوّلي جيداً عن غاشيه، بل وأرسل رسالة لشقيقه ثيو يقول فيها: «لا أعتقد برأيي أنه يجب علينا الاعتماد على غاشيه، أولاً أرى أنه مريض أكثر مني، أو بالأحرى مثلي تماماً، وإذا كان الأعمى يقود أعمى فهما سيسقطن في الحفرة»، إلا أن هذا الواقع قد تغير بعد قليل، بعد أن توطدت العلاقة بين الفنان والطبيب، حينها أرسل فان جوخ مرة أخرة رسالة مختلفة تمام عن الأولى إلى شقيقه ثيو يقول فيها: «لم أرَ في غاشيه سوى أخٍ حقيقي لي، يبدُ لي أنني حصلت على أخٍ آخر، نحن نشبه بَعضنا بعضاً كثيراً، هيئة وعقلاً»، وقد أراد أن يعبّر فان جوخ عن امتنانه لغاشيه بعد أن شهدت العلاقة بينهما منعطفاً بفضل الاهتمام الذي أولاه الطبيب لذلك الفنان المرهف، والحقيقة أن غاشيه كان شديد الإعجاب بفان جوخ، وقد أشار إلى أن هذا الفنان العظيم، كان يكشف أمامه كل مرة عن مجموعة الصور «البورتريهات» الذاتية لكي يريه التحولات التي مرّت عليه خلال هذه الفترة الزمانية، وكان الطبيب يعتبر هذه الصور نتائج مختبرية لتطور الحالة الصحية للمريض.
في ذلك الوقت، كانت تعشش في ذهن فان جوخ لوحة «توركواتو تاسو في مستشفى المجانين»، التي رسمها الفنان يوجين ديلاكوا، فأرسل إلى شقيقه ثيو كي يسأله عما إذا كان بمقدوره العثور على نسخة من الطباعة الحجرية للوحة، وأخبر شقيقه أنه يريد أن يجسد تلك الروح التي في لوحة يوجين في بورتريه يقوم برسمه هو بصورة أفضل، وبالفعل فقد رسم فان جوخ لوحة الطبيب غاشيه متأثراً بلوحة يوجين تلك، وبعد الانتهاء من الرسم كتب فان جوخ عن اللوحة: «لقد انتهيت من رسم بورتريه السيد غاشيه التي توحي بالتعبير عن حزن، لوحة حزينة ولكنها عظيمة، مذهلة وأنيقة، وهذا ما يجب تحقيقه في العديد من البورتريهات. هنالك ثمة بورتريهات حديثة قد ننظر إليها لمدة طويلة وقد نعاود النظر إليها بشوق بعد مئة عام»، ولعل فان جوخ قد توقع بأن اللوحة ستخلد، وهذا بالفعل ما حدث.
*وصف
يظهر الطبيب غاشيه في مشهد اللوحة وهو متكئ على طاولة حمراء بكوعه الأيمن، مسنداً رأسه على يده، وعلى سطحها يظهر كتابان بأغلفة صفراء وعشبة «الكشاتبين» الطبية التي تستخلص منها مواد تساعد على علاج بعض أمراض القلب، وقد كتب فان جوخ رسالة إلى صديقه الرسام بول جوجان، يصف فيها وجه الطبيب بـ«الوجه الحساس»، الذي يحمل «التعبير الحزين في عصرنا»، وقد وصف أحد النقاد ذلك الوجه بأنه نقطة تركيز البورتريه، كما وصف المعطف اللازوردي الذي يرتديه غاشيه في اللوحة مع خلفية التلال الملونة بالأزرق الفاتح بأنها: «ملامح ذابلة، ومتعبة، وعينان زرقاوان، وشفتان تعكسان الحزن والشفقة التي يحملها الطبيب»، كما بعث فان جوخ برسالة إلى شقيقه ثيو يقول فيها: «أريد أن أجعل من هذه اللوحة أن تكون الأفضل والأكثر إثارة من بين جميع الأعمال التي قمت بها».
اللوحة هي الأغلى من بين رسومات فان جوخ، فقد بلغت رقماً قياسياً في قيمتها المادية، حيث بيعت بـ82,5 مليون دولار خلال مزاد نظمته دار كريستيز في نيويورك عام 1990.