بدأت الحكاية خلال معرض فني شارك فيه عدد من شبان الرسم المحدثين في العاصمة الفرنسية ممن كانوا لا يزالون يعتبرون أنفسهم هامشيين في الحياة الفنية، كونهم جميعاً مستقلين ومعظمهم مرفوضاً من جانب محكمي “الصالون الرسمي” الواقع حينها تحت هيمنة الكلاسيكيين والرومانطيقيين فإن لامسوا الحداثة ولو بشكل موارب سموا “نيو- كلاسيكيين”. وكان على رأس هؤلاء الهامشيين رينوار وسيسلي وديغاس وبيسارو وسيزان يدعمهم من الكتاب خصوصاً إميل زولا ومن المعلمين الكبار كوربيه رغم واقعيته النضالية، ومانيه المتأثر بالفن الإسباني إلى درجة تميزه عنهم لا سيما من ناحية التلوين حتى وإن كان كثر ينظرون إليه حتى اليوم بوصفه زعيماً لهم. مهما يكن من أمر تجمع هؤلاء وغيرهم يومها في معرض أقيم خلال أبريل (نيسان) 1874 من دون أن يعرف أيهم ولا حتى الجمهور الذي راح يكتشفهم ويكتشف تجديداتهم الفنية يومها أنهم كانوا في طريقهم بدءاً من ذلك اليوم ليس فقط لتأسيس تيار فني جديد سيقيّض له أن يصبح واحداً من أشهر التيارات في تاريخ ذلك الفن والتيار الذي عاش ولا يزال يعيش قوياً متكاملاً حتى اليوم بل له فروعه في شتى أنحاء العالم: التيار الانطباعي المعروف منذ تلك الفترة المبكرة بـ”الانطباعية”.
هيمنة مستديمة
اليوم ليس ثمة في عالم الفن من لا يعرف ذلك التيار بتجديداته ونجومه وحتى بالعدد الأكبر من لوحاته. ولكنهم قلة الذين يعرفون أن الاسم الذي يطلق عليه إنما كان وليد مزحة ظهرت يوم الافتتاح نفسه وبدت مضحكة وغير منطقية في البداية. كانت بالتحديد مزحة أطلقها ناقد تشكيلي معروف ومهاب كان يكتب مقالاته حينها في مجلة “شاريفاري” المرموقة يدعى لويس ليروا. وعلى أي حال لئن كان ليروا هو من ابتكر الاسم فإنه لم يخطر له خلال كتابته مقاله بعد أيام، عن حفل افتتاح المعرض المستقل المذكور وتحديداً خلال تأمله وتأمل الحضور واحدة من اللوحات التي شارك بها كلود مونيه الذي كان أنجزها قبل عامين إثر عودته من زيارة إلى لندن –هرباً من قسوة الحرب الفرنسية البروسية التالية لاندلاع الانتفاضة التي ستعرف بـ”كومونة باريس”– حيث تعرف على الإنجليزي ويليام تورنر وفنه الذي كان على أي حال متأثراً بفن مانيه وبات لاحقاً يعتبر من خالقي ذلك التيار المستقل الجديد إنما من دون أن يخطر في باله أنه سيضحى واحداً ممن سيسمون لاحقاً “الانطباعيين”؛ ولا أن افتتاح معرض المستقلين سيجعله واحداً من أقطابه من دون أن يكون مشاركاً فيه. وعلى أي حال عدا عن هذا ليس لتورنر مكان حقيقي في موضوعنا هنا. وذلك لأن الموضوع كان فرنسياً – فرنسياً. ويتحلق من حول كلود مونيه الذي كان حينها لا يزال في بداياته رغم أن سنه لم تكن تقل عن 40 عاماً. فلئن كانت لوحة مونيه التي نتحدث عنها هنا قد أثارت إعجاب رفاقه كما إعجاب الجمهور والنقاد فإنها كانت لا تزال بلا عنوان. ومن هنا حين طلب إليه أن يجعل لها عنواناً قال بكل بساطة “اعتبروها انطباعاً عن مشهد شمس مشرقة” والتقط هذا الجواب واحد من الحضور سيتبن أنه الناقد ليروا الذي أعلن بكلام مضحك تحبيذه الأمر، مما سيشي بأن إجماع مونيه ورفاقه على استساغة الاسم جعله يواصل مزاحه في المقال الذي كتبه عن المعرض بعد أيام معلناً أنه يقترح “الانطباعية” اسماً للتيار الذي شكله فنانو المعرض. وكان الاقترح وباعتراف الناقد نفسه مجرد “مزاح سمج” كان يتوخى السخرية من أولئك الفنانين وفنهم.
ولادة فن جديد تماماً
ولم يكن ليروا يتكهن منذ تلك “المزحة” أنه لا الفنانين ولا النقاد ولا حتى الجمهور سيعتبرون كلامه مزحة لأن التسمية ذاعت وترسخت وبات لها معارض طوال العقد التالية بل بات ثمة هناك ما، بعد، الانطباعية ثم الانطباعية التجريدية من دون الحديث عن سوق غنية رائجة أوصلت عدداً كبيراً من لوحات فناني الانطباعية إلى موسكو وسانت بطرسبورغ في الشرق من أوروبا وإلى العالم الجديد إلى الغرب منها وبعد ذلك إلى مدن التجديد الفني في العالم بأسره. بل حتى إلى متاحف متخصصة بها في أماكن عديدة في العالم كله وأرقام قياسية في أسواق اللوحات ومزاداتها ليتوج ذلك كله بمتحف الأورساي الباريسي الذي حتى وإن كان يضم منذ نهايات القرن الـ20 عدداً هائلاً من لوحات حققها مئات الفنانين طوال النصف الثاني من القرن الـ19 فإن الانطباعيين يبقون نجومه الكبار.
تكريم معاصر لنا
مهما يكن فإن غايتنا هنا ليست التأريخ للانطباعية ومساراتها، ولكن فقط العودة إلى لوحة “البدايات” تلك، والتوقف عند بعض الأمور المتعلقة بها والتي قد تبدو اليوم غائبة عن الأذهان أمام طغيان شهرة وجمال اللوحة نفسها ما يكفي وحده لإعطاء فكرة عميقة حول التيار الذي أطلقته كما سنرى بعد سطور. أما هنا فيبدو من المفيد والطريف أن نعود إلى معرض
أقيم في متحف “مارماتون” الباريسي بعنوان “في مواجهة الشمس” (آخر صيف 2022) فكانت لوحة “انطباع شمس مشرقة” نجمته من دون مراء حتى وإن كان قد ضم عشرات اللوحات البديعة التي تدور كلها من حول موضوعة الشمس وحضورها في الفن التشكيلي. ففي النهاية أقيم المعرض بأسره احتفالا بمرور قرن ونصف قرن على عرض تلك اللوحة للمرة الأولى. ولقد كان ذلك الاحتفال في الوقت نفسه مناسبة لإقامة معرض مواجه له بل بتكامل معه إنما في متحف بارباريني في مدينة بوتسدام الألمانية بعنوان “انطباعية” (في شتاء العام التالي 2023) كانت نجمته هذه المرة لوحة أخرى لمونيه رسمها هذا الأخير بعد سنوات من “انطباع شمس مشرقة” عنوانها هذه المرة “جسر الهافر، انطباع ليلي” كان من أهم ما يتعلق بها أنها اعتبرت المعادل الليلي للوحة الشمس المشرقة وعرفت منذ إنجازها بكونه المعادل الانطباعي الليلي للوحة الأولى وإن كانت رغم جمالها تفتقر إلى تلك العناصر التي دائماً ما شكلت تجديديات الفن الانطباعي الأصيل. ومن المؤكد أن هذا يتيح لنا هنا العودة هنا ولو في اختصار إلى تلك التجديدات.
مميزات جذرية
فما الذي أتى مميزاً لذلك التيار الجديد ومبرراً لاعتبار المنتمين إليه متجانسين ليس فقط في فنهم بل في علاقتهم بالزمن الذي عاشوا فيه ورسموه فكانوا جزءاً من العالم الجديد الذي خلقه ذلك الزمن؟ الحقيقة أن كل ما في أساليب الرسم الانطباعية بدت مميزة وجديدة ودائماً هنا بحسب الفريقين اللذين راح كل منهما يؤيد أو يعارض التيار بصرف النظر عن مسألة تسميته. ففيما اعتبر كثر أن ما شهده معرض المستقلين التأسيسي كان فضيحة ونهاية لفن اللوحة بالنظر إلى أن الجمهور كان معتاداً على النظر إلى تلك اللوحة باعتبارها عملاً ناجزاً ومتكاملاً لا يكشف عن أثر مرور الفرشاة على مسطحها ولا “تلطخه” بقع ألوان تبدو وكأن حدثاً عارضاً جعلها هناك، ها هو يرى اليوم “هزة ضخمة تربكه” وهي الحجة الرئيسة التي تذرع بها خصوم التيار، فيما بدا الآخرون أكثر تسامحاً وهم يتحدثون عن تأثير ذلك الانطباع البصري الذي تتركه اللوحة لدى الناظر إليها إذ “تبدو وكأن رسامها إنما هدفه أن يرسم ما ينطبع بصرياً لدى نظرته إلى المشهد الذي يرسمه من دون أن يبالي بمسألة التعبير التي يفضل أن يتركها لهواة رؤية الخطوط والألوان واضحة تأتي هنا كمجرد وسيلة لتوضيح الرؤية” مما يعني هنا بحسب ناقد تلك المرحلة آرمان سيلفستر الذي كان من أوائل الذين دافعوا عن ذلك التيار، مضيفاً أن تقنية الرسام “الانطباعي” تأتي هنا في الفن الجديد متكيفة مع التأثير الذي يتوخاه من اللوحة من دون أن يغرق في تفاصيل الخطوط ومن دون أن يركز على حدود التفريق بين الأشياء الرسومة مفضلاً الدنو من دمج التفاصيل في بعضها البعض من منطلق التركيز على ما تتلقاه من ضوء طبيعي” وهذا ما يجعل الفنان يفضل التصوير الخارجي ويمقت مسرحة الرسم في المحترف أو في أي مكان لا ينهل من الضوء الطبيعي. والحقيقة أن معظم المحاولات التي جرت منذ ذلك الحين لتفسير جوهر الانطباعية البصري بلغة لفظية إنما انطلقت من ذلك التعريف بالذات.