تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » الأغنية اليمنية في ذاكرة اليهود المهاجرين

الأغنية اليمنية في ذاكرة اليهود المهاجرين

الأغنية اليمنية في ذاكرة اليهود المهاجرين

 

لعلّ من أوائل التسجيلات الموثقة لدينا عمّا غنّاه اليهود اليمنيون كانت تلك التي سجلها الموسيقي الألماني هانز هلفرتز في اليمن ما بين العامين 1931-1932، خلال رحلته الثانية إلى اليمن، والذي سجّل نحو أكثر من 100 تسجيل على أسطوانات شمعية، وخصّ 9 تسجيلات منها بتنصيف (أغان يهودية من اليمن) في وثيقة كتب فيها عناوين وملاحظات عن جميع هذه التسجيلات المحفوظة في متحف الإثنولوجيا في برلين، وكانت تنقسم إلى قسمين الأول أغانٍ باللغة العربية والثاني باللغة العبرية.

بين الديني والشعبي

قد تكون الأغاني العبرية المسجلة مجموعة دينية لا خصوصية يمنية فيها، غير اللهجة اليمنية العبرية الواضحة في هذه التسجيلات التي اطلعت عليها، بل منها ألحان ليست شرقية، وكما يبدو أنها انتقلت إلى اليهود اليمنيين خلال القرن التاسع عشر خلال البعثات اليهودية الأوروبية القليلة التي كانت ترسل إلى اليمن، للالتقاء باليهود اليمنيين. وأما في القسم العربي منها فكما يضع هلفرتز في عنوان التسجيل أن امرأة يهودية من ذمار تغنّي هذه الأغاني، وعند سماعي لهذه الأغاني وجدتها أغانٍ شعبية يمنية مرددة لا تملك أي صفة دينية، يهودية أو غيرها، وهذا موضوع آخر ينقلنا للحديث عما إذا كانت هناك أغنية يهودية يمنية حقيقة؟ أم هي ذاتها الأغنية اليمنية؟

نعرف أن مثل هذه العناوين والأوصاف التي يضعها باحثون من أصول يهودية، مثل هلفرتز وغيره، من أبرزهم روبرت لاخمان وأبراهام إيدلسون، قد يكون غرضها الأول اختلاق هوية لموسيقى يهودية بشكل عام، مهما كانت، آتية من اليمن أو حتى من شرق أوروبا، ولكن هذا يناقض تمامًا ما نجده في التراث اليهودي اليمني الغنائي الذي لا ينفصل إطلاقًا عن التراث اليمني الغنائي العام وخصوصًا إلى سنوات ما قبل (بساط الريح) والهجرة الكبيرة ليهود اليمن، كونهم كانوا كتلة النسيج اليمني، منعزلة وسط كل هذا الانعزال، تقتات ثقافيًا وماديًا من محيطها الخارجي اليمني فقط لسنوات طويلة. وللإشارة إلى أحد هذه التسجيلات فقد كانت المرأة “الذمارية اليهودية” تغنّي في التسجيل رقم (85) منها:

ألا نزلت للوادي ولا أعرف نزوله

ألا وإني بولد أخضر مندّش جعوده

ألا فقلت يا أمه قد قليبي يحبّه

ألا قالت يا بنتي بلاده بعيده

فقلت يمّه بلاد الحب ما هي بعيده

ويمكن من خلال هذه التسجيلات، وغيرها من الإرث اليهودي الغنائي الموجود في اليمن إلى قبل عام 1948، رؤية هذا بنسيج ثقافي موحد وغير مجتزأ عن الجو الغنائي العام في اليمن، إلّا أنه يمتلك صفات خاصة به بحكم الطبقية الاجتماعية التي عاش فيها اليهود اليمنيون في اليمن، وهذه الصفات تشترك فيها الأغاني التي غنتها جميع الطبقات التي نبذتها التراتبية الاجتماعية في اليمن آنذاك، وهي أن هذه الأغاني لم تخرج عن النمط الشعبي غير المنتظم، والذي لا يحتكم إلى قوانين واضحة ومحددة، فلا نجد في غالب هذا الإرث الغنائي اليهودي قصائد حمينية مثلًا، أو على أقل مستوى فنان يهودي يغني على آلة وترية.

الحميني والسياسي

ولكن يظل هذا الإرث الغنائي مخفيًا إلى حد ما إلى فترة ما بعد هجرة اليهود اليمنيين خارج اليمن تمامًا، أي في الخمسينيات والستينيات، حين اختلف الوضع تمامًا، وأتيح المجال لإخراج اليهود اليمنيين هذه الأغاني بصورة خلقت حقيقة ما سمّي بعد ذلك بالأغاني “اليهودية اليمنية”، وكان من أوائل من سجّلوا هذه الأغاني الفنان شلومو موقعة، والفنان شلومو ضحياني، وكانا كليهما يعزفان على آلة العود الشرقي. عكست أغانيهم أحداثًا حصلت في اليمن في سنوات من قبل (بساط الريح)، ونقلوا قصائد كثيرة كانت مخفية بسبب انعزال اليهود داخل اليمن المنعزلة أصلًا لسنوات طويلة، منها قصائد بالعربية والعبرية للحاخام يوسف الشبزي، فيما يغنّي شلومو ضحياني قصيدة (شجاني بارق القبلة) للشبزي، التي بيّنت قيمة أخرى مختلفة لهذه الأغاني، وهي القصيدة الحمينية “اليهودية”، ببنيتها المحكمة، ومن كلماتها:

شجاني بارق القبلة مع أول صباح

ونباني من الغفلة وأفناني طراح

ونلنا العز والحفلة مع من استراح

وتبرز هويتها اليهودية في بيت:

بني يعقوب مختارين على كلّ الأمم

وبالتوراة مقتادين بأسرار الحكم

وهم للعلم معتادين بما موسى رسم

بالإضافة إلى أسباب انعدام التسجيل في اليمن الشمالي التجاري وغيره في النصف الأول من القرن العشرين الذي حال دون تدوين هذه الأغاني، لم تكن مسموحة أن تغنّى بشكل علني أيضًا، فاتجه اليهود إلى ترديد الأغاني المرددة والمتداولة حولهم، وأتاح خروجهم من اليمن ظهور هذه الأغاني ذات طابع “يهودي” في النظم، ولكن ليس في النغم، وربما أيضًا كان لارتباط خروجهم هذا من اليمن عام 1948 في عام النكبة، وتأسيس دولة إسرائيل، وبنفس العام وفاة الإمام المتوكل يحيى، أرسى ذاكرة إيجابية عن شخصية الإمام يحيى في الذاكرة اليهودية اليمنية المهاجرة، وظهر هذا أيضًا في أغانٍ يهودية وقصائد منها ما غنّاه شلومو موقعة:

مسكين إمام (يحيى) قتل وبالرصاص قد انتحر

وأصبح فقير المال ولا عاد زاد جا منه خبر

لا غسلوه ولا كفن ريته نظيف حين اقتبر

وفي هذه الأغنية، تستذكر أحداثًا عديدة كانت ما زالت عالقة في ذهنية اليهود اليمنيين، الذين خرجوا من اليمن بآخر ذاكرة وهي “ثورة الدستور” ومقتل الإمام يحيى، وتنصيب الوزير إمامًا جديدًا:

والسيف قد دخل إلى صنعاء يوم الجمعة بحين

وأدّى لقومه أمر صنعاء يطحنوها طحين

والقوم قد دخل لصنعاء وبيعصرها عصير

وأبواب صنعاء تغلّقت من (الوزير) ليقوم يسير

ويتذكر أيضًا هؤلاء اليهود المهاجرون في أبيات من أغنية أخرى لهذه الواقعة:

وكم تبكي عليه دار السعادة

ودار الملك تبكي والحدود

تقول يا فرقتاه ويا إماماه

وكيف (يحيى) ويمسي في اللحود؟

ويا بيت الوزير ما ذي الفضيحة

تعيبوا في الإمام (يحيى) العماد

بدا هذا الدمج واضحًا في أغانٍ كثيرة في هذه الفترة، كانت تقدّم بصفة أغانٍ يهودية يمنية، مثل أغنية (نشيكوت بايام) التي قدمتها عفراء هزاع في العام 1978، وغنتها بالعربية والعبرية، وتكرر في مذهب الأغنية مقطع (ألا نزلت للوادي ولا أعرف نزوله) في الأغنية التي سجلها هلفرتز المذكورة في بداية هذا المقال

الارث المحمول

هذه الذاكرة التي ارتسمت في أذهان اليهود اليمنيين، نقلتها هذه الأغاني بصورة فاقعة، ومن هناك، من المهجر وليس من داخل اليمن، وربما بقيت هذه اليمن التي رسمها اليهود من خلال هذه الأغاني واقفة عند سنة رحيلهم، في عام النكبة. كانت هذه الأغاني خلال هذه الفترة تعتمد اعتمادًا تامًا على الإرث الذي حمله اليهود من اليمن، سواء في اللحن والكلمات، خصوصًا أن غالبيتهم في تلك الفترة – الخمسينيات والستينيات – كانوا قد ولدوا في اليمن، فظلّت هذه الأغاني تردد دائمًا بشكلها البدائي الأول نفسه تقريبًا الذي كانوا يؤدونه في اليمن، وحتى ارتسمت صورة ثابتة للأغنية اليمني التي تغنى من خلال اليهود اليمنيين.

انتقلت هذه الصورة مع الجيل الذي يليه في فترة السبعينيات والثمانينيات، ومع تغيّر شكل الموسيقى في العالم الغربي، ظهور وانتشار موسيقى البوب في العالم خلال تلك الفترة، وانتشار الديسكو، وغيرها من الألوان الموسيقية الحركية، وبفعل انفتاح اليهود اليمنيين عليها خارج اليمن، كانت الأغنية اليمنية التي حملوها والتي كانت ما تزال تحمل طابعها الأول البسيط تمزج مع هذه الألوان الغربية، وحتى الآلات التي كانت تعتبر “بسيطة” الذي كانت متوفرة عند اليهود للعزف المؤقت عليها، مثل “التَنَك” أو “الجَلَن” وهي حاوية معدنية صغيرة كانت تفرغ من محتواها ويعزف عليها، أصبحت تمثّل هوية لا يستغنى عنها في مثل هذه الأغاني، وظهر فنانون كثر حملوا هذا التجديد كان أبرزهم الفنان أهارون عمرام والفنانة عفراء هزاع.

بدا هذا الدمج واضحًا في أغانٍ كثيرة في هذه الفترة، كانت تقدّم بصفة أغانٍ يهودية يمنية، مثل أغنية (نشيكوت بايام) التي قدمتها عفراء هزاع في العام 1978، وغنتها بالعربية والعبرية، وتكرر في مذهب الأغنية مقطع (ألا نزلت للوادي ولا أعرف نزوله) في الأغنية التي سجلها هلفرتز المذكورة في بداية هذا المقال. وهذا التطويع الذي لم يقتصر على تكرار الموروث فقط، بل في استخدامه كجزء من بينة كاملة لأغنية مستقلة، وضّحت معالم ما سمّيت بالأغنية اليهودية اليمنية، التي استقت من الإرث اليمني المحمّل في ذاكرة اليهود اليمنيين المهاجرين.

وصلت هذه الأغنية إلى ما نستطيع القول بأنها أغنية خاصة ومصنفة بتجذر ممزوج بين الأغنية اليمنية الشعبية، والتوزيع الموسيقي الغربي، وليس على أساس “يهودية” هذه الأغاني بالتحديد، فهي ما زالت أغان يمنية، وعربية، والبعض الكثير منها لها خلفية دينية غير يهودية، هذا إن صح أساسًا تصنيف الأغنية على أساس ديني أو عرقي متجاهلين النسيج الثقافي الواحد الذي عاش فيه اليهود اليمنيين مع غيرهم

توزيع حديث

انتقلت هذه الأغاني في التسعينيات والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين بنفس هذا التدريج، مكررة أحيانًا للكلمات الشعبية اليمنية الأولى وبألحان فولكلورية، ولكن بتوزيع حديث، له طابع خاص بهذا النوع من الأغاني، وبرز فنانون مثل زيون جولان وبراخا كوهين، وغيرهم ممن كانوا ما يزالون يحتفظون بنطق عربي هو الأقرب للصحيح مقارنة بفناني الفترة التي تلتهم، وقدموا أيضًا ذات الأغاني التي حملتها الجماعات اليهودية المهاجرة. ومن الجدير بالملاحظة أيضًا أن هذه الأغاني ولو أنها تشترك كثيرًا مع الإرث الشعبي الموجود داخل اليمن، إلّا أن بعضها اختص بالحفاظ عليها اليهود المهاجرون فقط دون غيرهم، ولذلك فقد حافظوا على الكثير من هذه الأغاني العربية التي انقرضت في اليمن، ولكنها بقيت في الذاكرة اليهودية اليمنية خارجها، بذات كلماتها القديمة التي لم يعد بعضها مستخدمًا في اليمن.

يستمر هذا النوع من الأغاني بالتطور والاندماج أكثر من خصوصيته ونفسه، ومع ظهور الفنانين الذي يحترفون هذا اللون تحديدًا مستفيدين ومفتشين عن الإرث الأول، والتجديد الأخير، استطاع كل هؤلاء الفنانون أن يبرزوا بشكل قوي، مثل فرقة (A-WA) التي ظهرت مؤخرًا، وتستعيد ذاكرة الوصول الأول ليهود اليمن، والحكايات المبكرة لهجرتهم خارج اليمن، بهذا التوزيع المختلف تمامًا حتّى عن سابقه، وكذلك فرقة يمن بلوز (Yemen Blues) التي تشرح في اسمها هذا الدمج الذي اقتيدت به هذه الأغاني اليمنية مع الألوان الغربي، هناك في مهجرها.

وصلت هذه الأغنية إلى ما نستطيع القول بأنها أغنية خاصة ومصنفة بتجذر ممزوج بين الأغنية اليمنية الشعبية، والتوزيع الموسيقي الغربي، وليس على أساس “يهودية” هذه الأغاني بالتحديد، فهي ما زالت أغان يمنية، وعربية، والبعض الكثير منها لها خلفية دينية غير يهودية، هذا إن صح أساسًا تصنيف الأغنية على أساس ديني أو عرقي متجاهلين النسيج الثقافي الواحد الذي عاش فيه اليهود اليمنيين مع غيرهم، مع الأخذ بعين الاعتبار الفوارق الطبقية التي ألزمهم بها المجتمع.

تبقى هذه التجربة التي نخوضها الآن في هذا المقال في سرد ذاكرة يهودية خاصة لأغنية اليمنية قابلة للتحليل والتوسع في كل فترة من فترات تطور هذه الذاكرة، بداية من وجود هذه الأغنية داخل اليمن، إلى هجرتها وتوثيقها الأول الذي استمر خلال الخمسينيات والستينيات، وتطورها ونضوجها بخصوصيتها في السبعينيات والثمانينيات بفعل اندماج اليهود اليمنيين مع العالم الغربي أكثر، وتصديرها بتصنيف منفصل. لا بيهودية دينية، بل “يهودية يمنية” منفتحة على العالم الآخر، بعيدًا عن يمنية الأغنية اليمنية التي ما زالت تتطور بانعزال داخل اليمن.

نقلا عن منصة “خيوط”