تقليد الشرق للغرب فنياً ظاهرة معقدة لها جذورها التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية، ومن أسبابها تعرض الكثير من الدول العربية والإسلامية للاستعمار من قبل العالم الغربي خلال القرون الماضية. حينها سعى المستعمرون إلى فرض ثقافاتهم ولغاتهم على الشعوب المستعمرة، بما في ذلك الفنون.
ولعل انتشار الفن الغربي في الشرق وتقليد بعض الفنانين العرب لأعمالهم، فضلاً عن ضعف الدول النامية سياسياً واقتصادياً وثقافياً خلال القرنين الماضيين، أديا إلى تراجع المؤسسات الفنية مقابل ازدهار غربي.
جذبت الحداثة الغربية في أوائل القرن الـ 20 الكثير من الفنانين العرب، ورأى بعضهم فيه تجسيداً للتقدم، فبدأوا في تقليده بهدف اللحاق به والبحث عن أسواق جديدة وكسب الشهرة والنجاح هناك. توجه فنانون شرقيون أيضاً إلى إنتاج أعمال فنية تتوافق مع ذوق المجتمعات الغربية، حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن بعض عناصر سماتهم المحلية.
أما درامياً فسادت موضة الأعمال المعربة والمستنسخة عن أفكار غربية، مع أن العرب يملكون سينمائياً ثروة ثقافية وفنية هائلة تجسد مسيرة إبداعية تمتد لأكثر من قرن من الزمن. ظهرت السينما في العالم العربي في أواخر القرن الـ 19 مع عروض لأفلام غربية صامتة ثم عاشت عصرها الذهبي ما بين ثلاثينيات وخمسينيات القرن الماضي. بينما رأت الدراما العربية النور في أواخر الخمسينيات مع عروض مسرحية تلفزيونية.
يعتبر التراث الدرامي التلفزيوني والسينمائي من أهم عناصر الهوية العربية، لأنهما يجسدان ثقافة وتاريخ وحضارة العرب ويوثقان التاريخ من خلال أعمال سجلت الأحداث والتحولات التي شهدها العالم العربي خلال القرن الماضي، فضلاً عن أنهما مصدر ثراء ومصدر إلهام للفنانين المعاصرين.
إذاً كيف ينظر النقاد والمبدعون العرب إلى التبعية الثقافية وإغفال الإبداع الخاص في الفن الوطني؟ وهل يعكس ذلك عقدة نقص لدى الفنانين من الغرب؟ وهل يمكن أن تؤدي تلك العقدة إلى غياب الهوية الفنية العربية؟
كسل فني
الشاعر والملحن عماد شمس الدين يرى أن التمسك بالحضارة والتراث لا يتعارض مع مواكبة التطور في الغرب، مضيفاً “التفاعل مع الغرب ضروري لخلق أنماط موسيقية جديدة، وإذا كنا نستخدم الآلات الموسيقية الغربية في التوزيع فهذا لا يعني أننا نقلده ونأخذ كل شيء منه”.
في المقابل، يعيد شمس الدين ظاهرة انتشار الأعمال المعربة واستنساخ الأفكار الغربية في الدراما العربية إلى ما سماه “الكسل الفني”، مضيفاً “ومع ذلك يوجد مبدعون ولكن الظروف التي نعيشها على المستوى الاقتصادي والسياسي والأمني تجعلنا نقع في الإحباط والكسل، لأن الشعور بالأمن والأمان والفرح هو الذي يشجع على العطاء وتقديم الجديد”.
وتابع، “ما نعيشه لن يفقدنا هويتنا لأنه لن يستمر إلى ما لا نهاية، ومع أننا نعيش زمن الضياع الفني منذ بداية الألفية الجديدة فلا بد أن تحصل صحوة ويستعيد الناس توازنهم النفسي والإبداعي”.
مجتمع استهلاكي
يبدو أن الاستهلاك بجميع أنواعه يهيمن على كل المجالات في المجتمعات العربية بما فيها المجال الفني، إذ يؤكد الناقد والكاتب حسن الحداد، أن “العرب ابتكروا بعض الفنون ولكنهم لم يعملوا على تطويرها بل فضلوا الاعتماد على الغرب”.
وقال الحداد، “الموسيقى بدأت في الغرب وكذلك السينما ومن الطبيعي أن تحصل اقتباسات ومحاكاة لفنونهم، وحتى الرواية هي أيضاً مقتبسة وبدأت متأخرة عندنا، وشهدت السنوات الأخيرة نوعاً من الاتكالية وعدم القدرة على البحث والتأمل واعتماداً على الآتي من الغرب في مختلف المجالات وليس في الفن فقط”.
وأضاف، “المجتمع العربي استهلاكي وغير منتج. للأسف قبل 30 عاماً كان العرب أفضل مما هم عليه اليوم نتيجة عوامل مختلفة من بينها الحريات والوضع الاقتصادي والاجتماعي، لكن هذا الوضع لن يؤثر في الهوية العربية لأن التأثر بالغرب متجذر في المجتمعات”.
ومضى في حديثه، “على رغم كل ما سبق لا يمكن أن ننكر أن عالمنا العربي يزخر ببعض الشخصيات المبدعة ولكنها استثنائية ولا بد من التفاؤل والأمل”.
عمق شرقي
من جهة أخرى، اعتبر الناقد الفني طارق الشناوي، أن التأثر بالغرب لطالما كان موجوداً وليس عنصراً طارئاً على الثقافة العربية، مضيفاً “السينما صناعة غربية أما المسرح فكان موجوداً في زمن الحضارتين الفرعونية والفينيقية ولكنه تطور في الغرب والبعض يضعه كنموذج، ومن وجهه نظري فإن الفنون تتلقح من بعضها بعضاً، خصوصاً في ظل انتشار السوشيال ميديا”.
ورأى الشناوي أن “لم يعد هناك فن يعبر عن الشرق وآخر عن الغرب، فمن المهم أن يكون الفنان هو نفسه. وقال، “عندما اتهم محمد عبدالوهاب أنه سرق ألحاناً غربية أنكر ذلك، لكنه أشار في الستينيات إلى أنه تأثر بها في عدد من ألحانه وظهر هذا التأثر في جمله اللحنية”.
وأضاف، “حتى إن بعض الفنانين العرب ممن اعترضوا على استخدام بعض الآلات الغربية في الموسيقى العربية ومن بينهم أم كلثوم، وافق في ما بعد مع أن كوكب الشرق كانت عنواناً للفن الشرقي العتيق. ويمكن القول إن كبار الملحنين استخدموا الإيقاعات الغربية في ألحانهم ولكن بطريقة راقية وعمق شرقي”.
وعلى رغم التأثر بالغرب سينمائياً يمكن أن تكون للسينما العربية لغة خاصة بها، بحسب الشناوي الذي يقول “كان المخرج مارتن سكورسيزي يملك مؤسسة لترميم الأفلام المهمة في العالم وهو من تولى ترميم فيلم “المومياء” للمخرج شادي عبدالسلام، الذي يعتبر من أهم الأفلام العربية من وجهة نظري ووجهة نظر مهرجان دبي عندما أجرى استفتاء لأفضل 100 فيلم عربي عام 2013″.
وذكر، “اعتبر سكورسيزي أن عبدالسلام كتب من خلال هذا الفيلم أبجدية للفيلم المصري بإيقاعه ولغته السينمائية. والسينما العربية تستطيع أن تولد لغة خاصة بها ولكنها تحتاج إلى مخرج مبدع يملك ثقافة وعمق شادي عبدالسلام، لكن استنساخ الأفكار ليس جديداً بل إن السينما المصرية كانت لها منذ الأربعينيات والخمسينيات مرجعيات من السينما الهوليوودية، وهنا نتكلم عن السينما العريقة الأولى في العالم العربي، ولكن إلى جانبها كانت هناك أعمال مأخوذة عن روايات نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي، والنهل من أعمال هؤلاء المبدعين لم يتوقف”.
وضرب مثالاً بعرض فيلم “أنف وثلاث عيون” عن رواية لإحسان عبدالقدوس وقبله مسلسل “إمبراطورية ميم”، فضلاً عن الاستعانة بين وقت وآخر في بعض الأعمال بروايات نجيب محفوظ وأحمد مراد الذي كتب سيناريو فيلم “الفيل الأزرق”.
أما الأعمال المأخوذة عن “فورمات” أجنبية فلا مشكلة فيها عندما يقدم المحتوى بإحساس شرقي عربي، ولذلك “لا يمكن أن نعتبر أن كل ما نأخذه من الغرب سيئ وكل ما نأخذه من الشرق جيد، بل تكمن أهمية العمل بالمحتوى الذي يقدمه كل منهما”.
إلى ذلك، لا ينفي الشناوي أن العرب يعانون “عقدة الخواجة” لأنهم يلقبون نجيب الريحاني بـشارلي شابلن الشرق ويوسف إدريس بـأنطون تشيخوف العرب، وبأنه لا بد من الاعتراف بوجود مبدعين عرب كمجدي يعقوب وأحمد زويل ونجيب محفوظ وغيرهم، والتخلص من تلك العقدة.