لم يعد الاهتمام بالإبداع في الخط العربي مقتصراً على فناني الدول العربية والإسلامية، بل صار من بين الفنانين الغربيين من شغف بهذا الفن الجميل، وأراد أن يعبر من خلاله عن الكثير من المضامين الإنسانية، التي لا تقف اللغة عائقاً دون وصول رسائلها إلى المتلقين من كل الثقافات الأخرى، ومن هؤلاء أنتونيلا ليوني، وهي إيطالية متخصصة في تاريخ الفن الإسلامي.
تعد أنتونيلا ليوني فنانة موهوبة تُجسّد لوحاتها حالة من عشق الفنون الإسلامية بشكل عام، والخط العربي بشكل خاص، حيث جذبها بجمالياته في سنوات دراستها الأولى، وازداد شغفها به عندما غاصت في عوالمه أثناء دراستها له في القاهرة، فتعلمت الكثير من أنواع خطوطه وأبدعت فيها، مثل الفارسي، والنسخ، والرقعة، والديواني، والثلث الذي كتبت به اللوحة المعروضة أمامنا.
تكوين زخرفي
إضافة إلى أنواع الخطوط، أتقنت ليوني كذلك أساسيات الزخرفة النباتية والهندسية، والفن التشكيلي، فكان لذلك دور كبير في تحكمها في استخدام الألوان، لتقدم أعمالاً فنية راقية، تجمع بين أصالة الخط العربي وحداثة الفنون المعاصرة، فتضع المشاهد أمام تشكيلات بصرية جميلة، مثل هذه اللوحة.
اختارت ليوني للوحتها مقطعاً من حديث شريف، يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ»، وصَمّمتها بتكوين زخرفي بديع، وكتبت النص بخط الثلث، ورغم صعوبته، بدا الشكل سَلساً ومتناسقاً، وقوي التركيب، مع تكرار جملة «جميل يحب الجمال»، التي كتبتها بتنويعات أفقية، ملتزمة بأدق خصائص هذا الخط، فداخلت بين بعض الكلمات والحروف، ولفّت بعضها على بعض، وتفنّنت في بعثرة الحركات الإعرابية والضوابط والزخارف والحروف الدقيقة، مبرزة كل ما يمكن أن يقدم بهذا الأسلوب الخطي من جماليات فنية.
ويمثل الحديث الذي اختارته الفنانة ليوني واحداً من أعمق مضامين القيم الجمالية، فهو دعوة نبوية إلى التزام جمال الهيئة، لأن الله يحب ظهور أثر نعمته على عبده، فهو سبحانه جميل يحب الجمال، وإذا كان شكر عبده له على نعمه وحمده إياه جمالاً باطناً، فإن تحسين العبد لهيئته من أجلّ أنواع شكره الظاهر، فهو سبحانه الذي ألهم عباده تقوى تُجمِّل بواطنَهم، وأنزل عليهم لباساً وزينة تجمّل ظواهرهم وتمتّعهم في الدنيا، وهي الزينة التي أخرجها لهم مع الطيبات من الرزق، ويسعى الفنانون إلى إبرازها في أعمالهم الإبداعية، وهو ما جعل ليوني حريصة على تجسيد هذه القيمة الجمالية المبثوثة في مضمون هذا الحديث الشريف.
قيمة جمالية
عمَدت ليوني في خط النص إلى كتابة مقطع «إِنَّ الله» بطريقة متداخلة ومركبة في قلب الشكل، مبرزة القيمة السامية للجمال، فقد أحبّه الله، ولأن الأشياء تكسب قيمتها من فاعلها، كانت قيمة الجمال عظيمة، لأن الله بعظمته وجلاله أحبَّه، وكان هذا الجمال في قلب القيم الإنسانية، ثم عمَدت إلى تنويع كتابة مقطع «جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» ليبدو الشكل العام في هيئة زخرفية بديعة، حيث كتبت كلمة «جميل» بلَفِّ حرف الجيم، وركّبت عليها الكلمة التالية «يحب»، التي داخلت معها الكلمة التالية لها «الجمال» عن طريق حرف الألف، فيما كتبت الجيم ملفوفة كالجيم الأولى، مؤكدة معنى أن الله الجميل يحب الجمال، بذلك التماهي الواقع بين شكلَيْ الجيمين، جيم كلمة «جميل» الواصفة لله تعالى وجيم كلمة «جمال» المعبرة عن هذه القيمة السامية، كما كان لكتابة مقطع «جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ» في الجوانب الأربعة ل«إِنَّ الله»، دلالة أخرى على أهمية الجمال عند الله، وكأن الخطاطة تريد من المشاهد أن يتذكر أنه أينما وجّه وجهه من الكون فسيرى الجمال الذي بثَّه الله فيه وأبدعه، فهو تعالى القائل في سورة الصافات: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ.، وإن ذكر الله المتكرر لهذه الزينة ليؤكد أيضاً حبّه للجمال، كما يؤكد مجانبة من يحرمون أنفسهم من الفن الجميل للصواب، والله يقول في سورة الأعراف {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ.، وكل ذلك هو ما جعل هذه الفنانة تنفذ هذه اللوحة الجميلة في هذا الثوب الزخرفي الآسر.
وقد طبعت اللوحة بطابع بديع من خلال الزخارف النباتية المكتوبة بنفس اللون الأصفر الذي كتبت به «إن الله»، مع إيحائها للمنطقية في التلقي، وشكّلت مع اللون الأسود الباعث على الثقة، والبرتقالي في الخلفية الباعث على التفاؤل، إيحاءً بأن الجمال الذي أحبّه الله لا يبعث في النفوس إلا جمالها.
إضاءة
ولدت أنتونيلا ليوني سنة 1959م، وهي حاصلة على دبلوم في الفنون الكلاسيكية والديكورية للعالم الإسلامي من المتحف البريطاني، وحاصلة على درجة الدكتوراه في الفنون الإسلامية، وقد استقرت في مصر بعدما جذبتها الزخارف الإسلامية في المساجد التاريخية، فدرَست تحسين الخط العربي والرسوم الإسلامية في أكاديمية باب اللوق بالقاهرة، فتمكنّتْ من تعلّم اللغة العربية، واكتسبت خبرة كبيرة في حرفيات وفنون الكتابة العربية، بخطوط مختلفة لتُتم بذلك خبرتها بأهم أسس الفن الإسلامي، فصارت من الأسماء المعروفة بين الخطاطين بمصر والبلدان العربية، وشاركت في العديد من الملتقيات والمعارض الفنية في دول مختلفة، وعُرضت لوحاتها في الكثير من الأماكن الثقافية الشهيرة، بداية من القاهرة، حيث قصر الأمير طاز الأثري، والمركز الثقافي الإيطالي، ودار الأوبرا، مروراً بالأقصر وأسوان بصعيد مصر، وصولاً إلى مدن إماراتية ودولية متعددة.