يقول فان كوخ ” الفن وجد لمواساة أولئك الذين كسرتهم الحياة”. وتقول تويلا ثارب “الفن هو الطريقة الوحيدة التي تمكننا للهرب.. من دون مغادرة المنزل”.
أحيانا تجد الفنان يرسم مشهد أو رؤية لموضوع ما في الحياة، قد يكون الموضوع هامشي إي يبدو ليس ذو أثر كبير في الحياة، كالمواضيع التي تحمل رؤية فلسفية أو أجتماعية كبرى كالموت والحياة والحرب والسلام والحرية والعبودية وغيرها من الأفكار الكثيرة. ولكن الموضوع الذي يبدو هامشي او لا يحمل قيمة ومضمون فلسفي واجتماعي كبير، قد يأخذ صداه وأهميته في الساحة الفنية من خلال قدرة الرسام على اختيار اسلوب مميز ذو طابع فني يشد المشاهد بجمالية الأسلوب من حيث صياغة الظل والضوء والحدود الداخلية والخارجية للأشكال وطريقة التجانس والتضاد اللوني وعملية أخراج العمل كبناء فني مبهر كل هذه المواصفات تجعل إي موضوع مهما كان هامشي يأخذ صدى كبير في نفس المتلقي.
فلوحة ” أكلوا البطاطا” للفنان فان كوخ ممكن ان تكون موضوعا هامشيا لعائلة تعمل بالزراعة يتناولون العشاء البسيط وهو البطاطة !! قد لا يثير هذا الموضوع أهمية لدى المتلقي حين يتناوله فنان في بداية مشواره الفني!! ولكن هذا العمل الهامشي لفان كوخ يعود إلى الواجهة الفنية ويتناوله النقاد والكتاب المهتمين بالفن ليدرسوا تفاصيله فيتتبعوا إسقاطات الظل والضوء على وجوه العائلة المتجعدة وإيماءاتهم وخشونة ايديهم وتهرأ طاولة الأكل وجدران الغرفة التي يجلسون فيها، أذا أنتقل الموضوع في هذا العمل من كونه موضوع عشاء هامشي إلى موضوع يطرح قضية الفقر وهامشية وبؤس حياة الفلاحينـ اذ ان قدرة تصوير فان كوخ بأسلوب يتعمد أظهار الحزن والألم من خلال أحساسه المتمكن بالرسم، جعل الموضوع ينتقل من الهامش إلى الصدارة، على الرغم أنهُ كان في بداية مسيرته الفنية.
من جانب آخر، قد لا يشكل جسد الإنسان وما يحتوي من أعضاء وأحشاء كأوردة وشرايين وخلايا جانب جمالي في الفن على الرغم من بروز فن التشريح الذي ركز في فترات تاريخية على اظهار مفاتن الجسد كجزء جمالي يفتتن به في الرسم من خلال التركيز على أظهار المفاتن الجمالية من خطوط وإشكال ونتوءات للهيكل العظمي كالساقين واليدين وخطوط وأشكال المفاتن الجمالية لعضلات الجسد وظلَّ الفن يهتم ويدرس جسد الإنسان وفق البعد الجمالي للهيكل العظمي والعضلي. ولكن لدى الفنانة الأميركية مونيكا مارتينز يأخذ الموضوع المتناول عن جسد الإنسان بأبعاد جمالية رائعة وهي تغوص لمديات أعمق في جسدهِ. فهي لم تقف عند الهيكل العظمي والعضلي كحالة شكلية جمالية تغوص في تشريحهما، وإنما ذهبت إلى أبعد من ذلك حين أطالت النظر في تراكيب الشرايين والأوردة وأظهرت حركة تلك الخطوط التي تجوب جسد الإنسان في كل أتجاه أنها لاحقت أدق واصغر الشرايين والأوردة وتشعباتهم في الجسد لتظهر لنا جماليات مبهرة لما خلق الله في هذا الجسد العظيم، من خلال أسلوبها المميز في استخدام اللون ودرجاته وتشكيلات المبهرة للأنسجة وأعضاء الجسد الداخلي. حتى تسكن الدهشة المشاهد وهو يتابع كثرة تشعب الأوردة والشرايين والأعصاب فيقف متسمر أمام الأعمال وهو يسأل هل حقا أنا أحمل كل هذه الأشكال والأعضاء والخلايا المتنوعة في جسدي!! الأسلوب المتميز لهذه الفنانة جعل من الأحشاء الداخلية لجسد الإنسان قيمة جمالية وشكلية مبهرة، كموضوع معالج ولو لم تكن تمتلك القدرة المتميزة والموهبة الكبيرة لما استطاعة أن تقدم لنا هذه الأعمال الرائعة.
أحيانا يتخذ الرسام من أشياء هامشية مركونة في حياتنا على هامش الزمن، ليصنع منها موضوعا مهما لأنهُ يتعلق بذاكرة الإنسان الثقافية وموروثهُ المتداول عبر الزمن، قد لا يكون في لحظة زمنية مرت بحياة هذا الإنسان أو ذاك. ان شكلت هذه المفردات والأشياء قيمة معنوية كبيرة، قد تكون في لحظة زمنية هذه الأشياء كانت جزء من الديكور أو عادة اكتسبت أو أنفعال أجتماعي حدث ومضى!! ولكن هنا تكمن اللحظة المهمة من تجربة الفنان وقدرته على تحويل هامشية الأشياء والذكريات إلى مواضيع مهمة في تاريخنا كأفراد أو شعوب. وهذا ما يفعلهُ الفنان العراقي علي آل تاجر حين حول أشياء هامشية في بيوتنا وحياتنا إلى استثمار مهم في مسار حياتنا. انهُ يعيد لتلك الأشياء دلالتها الزمنية والمكانية ويضفي عليها شيء من دفئ قلب، وكأنهُ يكسوها بعاطفة وشيء من الحنين الذي يعيد تشكيل ذاكرتنا مرةً أخرى. الفنان علي آل تاجر هو فنان قرر أن يخرج عن النسق الرتيب الذي مضى فيه بعض الفنانين العراقيين حين تشبثوا برسم الأشكال والمواضيع المكررة لأزقة ووجوه بغداد القديمة، فذهب أبعد من ذلك حين غاص وبحث في علاقات الإنسان بالأشياء التي تحيط به من جهة وحوادث السياسية والاجتماعية التي تحيط بالإنسان فرسم تلك العاطفة التي تربط الفرد العراقي والأشياء التي حوله وعلاقة الإنسان وأثره وتأثرهُ بتلك الأحداث والحوادث، علي آل تاجر لا يرسم المواضيع الشكلية بأسلوب وإحساس متميز ولون مؤثر بالنفس وإنما يؤرخ تاريخا ملونا لإنسان وادي الرافدين.