تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » سعد يكن… الواقعية التي تتجاوز الواقع

سعد يكن… الواقعية التي تتجاوز الواقع


عباس بيضون*
تدخل إلى معرض “مختارات” لسعد يكن وأنت متيقّن من أنك ستجد ما يرضيك، لكن ما تنتظره لن يكون هو نفسه ما تراه أمامك. قد يخيل إليك أنك ستجد فنّاً ملحمياً، وأنك في كل لوحة سترى ما يردّك إلى التاريخ، ما يعيدك إلى أوركسترا، إلى حشد، إلى موقعة أو حدث. ترى سعد يكن وكأنه يقيم في الذاكرة، لا تدري من أين جاء بها. إنه حاضر في كل تاريخ الفن، ولا نعرف كيف أتى من هنا، ولا كيف صار قريباً إلى هذا الحد، كأنك عثرت عليه في ماضٍ لا يزال مقيماً، وكأنه يسكن لحظة ما من يومك أو أمسِك، لا يهم، لكنك لا تفهم – مع ذلك – ما الذي اختلف في المعرض الذي استضافته صالة شريف ثابت مؤخراً في بيروت، وما الذي أُضيف إليه.

أضيف لا بحدّته، بل لأنه في الأصل هكذا؛ أصيل، نعم، تلك هي الكلمة. الأصالة تكاد تطغى على زمن اللوحة، هي التي تجعلها، تقريباً، بلا وقت. الأصالة هي التي، في آنٍ معاً، تجعلها لحظة ورسالة وذكرى ودعوة.

تفهم أنك كنت، حتى الآن، في تاريخ الفن. أنه كان بالنسبة لك خلاصة مسار طويل، كنت تراه من وراء أجيال من الفن، تراه في مفصل تاريخي، تراه وكأنك ترى غيره، وكأنّك ترفعه إلى الدرجة التي لا يعود فيها نفسه، ولا وحده. تفهم أنَّ معرفتك به – التي ليست طويلة جداً – تجعله نموذجاً، أو مثالاً، أو بياناً، أو وصية.

حين نقرأ كيف قدّم جمال بارود، وسعد الدين كليب، وقيس مصطفى كتاباً معنْوَناً بـ”موسيقى سعد يكن”، نشعر أننا لسنا وحيدين في حيرتنا. نصادف ألفاظاً مثل: الرؤى، الخلق، الروح… لا تُسَهِّل علينا الرؤية، بل تزيدها غموضاً. ثمة آخرون، غيرك، ينمذجون لوحة يكن، ويرونها من أسفل، يرونها مثالاً ونموذجاً أيضاً. تشعر، وأنت تعيد النظر في لوحات يكن، أن المسألة لا تقف هنا.

لوحات تحتد وتنكمش إلى درجة تتراءى معها تكعيبية أخرى

ترى الوجوه التي يرسمها، والتي غالباً ما تهيمن على لوحته. هذه الوجوه الضيقة، الملمومة، التي لها في الغالب ما يشبه اللقطة، ما يشبه الحكاية، ما يحمل بعداً درامياً، ما يكاد يكون مشهداً عارماً. تنتبه إلى أنك لست في البارحة أو في الأمس، لا ترى تسامياً أو اقتباساً من التاريخ، ما تراه ليس ملحمياً بالضرورة. إنك، قبل كل شيء، ترى حِدّة وعُصابية وزخماً هو تفاعل اللحظة، هو واقعيتها التي تتجاوز الواقع، تحوّله إلى واقع سفلي، إلى لحظة عصبية داخلية، إلى نزاع وحدة وقسوة.

ومع ذلك، لسنا في الواقع المباشر، ولسنا أمام نقد للواقع أو تعليق عليه. نحن أمام واقع غارق في واقعيته إلى درجة تحويلها إلى قوة نافذة، إلى لحظة صاعقة، إلى تراجيديا ماثلة. من هنا نجد ملحمية يكن، ملحمية نابعة من فرط حضورها، من فرط مأساويتها، من فرط لحظتها.

ربما يخطر لك أن لوحة يكن تستوي أكثر حين تكون حاشدة؛ لوحاته عن الأوركسترا هي بالتأكيد كذلك. لكن عدداً من لوحاته لا يضم أكثر من شخصين أو ثلاثة. هذه اللوحات توحي بأننا أمام استلهام شعبي، لكن سرعان ما ننتبه إلى أن هذا هو، أيضاً، سِمَة الوجوه التي تحملها. وجوه تُغالي في شعبيّتها، إلى درجة تبدو فيها ملامحها الحادة والضيقة وكأنّها على أهبة نوع من السرد، نوع من الكاريكاتير المضاد، كاريكاتير للندبة والقسوة.

نحن هنا، أيضاً، أمام استلهام شعبي، لكن القسوة والعُسف فيه يشتدّان إلى درجة يخال معها الناظر أنه أمام مشهد مأساوي، أمام لوحة تحتد وتنكمش إلى درجة تتراءى معها تكعيبية أخرى. الأجساد هنا متكتلة في ما يشبه النحت، متكتلة في ما يوحي، من قريب أو بعيد، بأن زمن اللوحة مستمدّ من قوة اللحظة إلى حدّ تنصيبها. إننا أمام نوع من الأنصاب، بقدر ما نحن أمام حكاية أو لقطة. من هنا نعرف ملحمية سعد يكن.

* شاعر وروائي من لبنان