يمثل الفن لغة بصرية في عالمٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتكثر فيه المُشتّتات، يبحث فيه الإنسان عن ذاته ويعمل جاهدًا للتعبير عن نفسه والإفصاح عن مشاعره وخلجاته. فمن خلال الأشكال والألوان والخطوط، يفتح الفنان نافذةً على أعماقه، ويكشف عن دواخله في لوحةٍ مثيرة للإعجاب.
فالفن التشكيلي ليس مجرد ممارسة جمالية وكمالية، بل هو فعل وجودي ينطلق من أعمق طبقات الوعي واللاوعي، ليصبح مرآة تكشف جوهر الكائن الإنساني في صراعه الأزلي مع المعنى. كما يتحوّل الفنان التشكيلي إلى كائن وسيط بين عالمين؛ عالم محسوس يتجسد في الألوان والخطوط والملمس، وعالم متخفٍّ يسكن في الظلال والانكسارات والفراغات. هنا، تتحول اللوحة إلى مساحة روحية، يسكب عليها الفنان أحماله النفسية وتوهجاته الفكرية، فيحوّل التجربة الذاتية إلى خطاب بصري قادر على لمس الآخر في صميمه.

هُنا وقفة تأملية مع مجموعة من الفنانين التشكيليين، للبحث في أغوار تجربتهم مع الفن وتوظيفه للتعبير عن الذات. ففي شأن المهارة التقنية الخاصة بإخراج اللوحة الفنية للمتلقي، يقول الفنان التشكيلي خالد بن يعقوب السبهاني: “كان يرى بابلو بيكاسو، وهو أحد أشهر فناني المدرسة التكعيبية، الفن التشكيلي كأداة تحرر وتعبير غير محدود عن المشاعر والأحاسيس، بل يتجاوز الواقع ليُوجد رؤية جديدة للعالم، حينما قال مقولته الشهيرة: الفن يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية”.
وقد كانت نظرة الفنان فنسنت فان جوخ للفن التشكيلي ذات جانب عاطفي وروحي؛ فقد عبّر عن الألم والأمل والطبيعة من خلال تقنية ضربات الفرشاة والألوان، حيث كان يقول: “أنا أحلم بالرسم، ثم أرسم حلمي”.
وأوضح السبهاني أن المهارة التقنية وحدها ليست كافية لنقل مشاعر الفنان في اللوحة الفنية، فقد أثبتت تجارب عظماء الفنانين في العالم أن المهارة التقنية تُعد أداة ضرورية لكنها ليست العامل الوحيد لنجاح العمل الفني. فالمهارة تمكّن الفنان وتساعده على التحكم بالألوان وعلاقاتها، والبناء التكويني، وإبراز الظل والنور، ومهارات المنظور. وكل هذا يمكّنه من نقل المشاعر والأحاسيس بصورة أعمق وأدق وصولًا إلى الرؤية الداخلية، والصدق الشعوري، والرسالة الفكرية للعمل: *فلسفة الفنان*.
وذكر مثالًا على ذلك لوحة “آكلي البطاطا” الشهيرة لفان جوخ، التي تُظهر عائلة فقيرة تتناول الطعام في جو واقعي وكئيب، معبّرة عن الكفاح والتواضع. فقد ساعدته مهاراته التقنية في إبراز هذا المشهد بتعبيراته في بناء تكويني دائري، من خلال التحكم الكبير بعنصر الظل والنور وقتامة الألوان، وتمكنه من إظهار ملامح الفقر والضعف وشحوب الوجوه وبساطة المكان والمعاناة الواضحة في تصوير أفراد العائلة.
وفي المقابل قد نجد فنانًا يرسم وجهًا بدقة واقعية، لكنه لا ينجح في تحريك مشاعر المتلقي نحو أحاسيس وتعابير هذا الوجه. هذا يبيّن أن المهارة التقنية والقيمة الشعورية إذا ما اجتمعتا في العمل الفني؛ جعلتا الفنان قادرًا على نقل مشاعره وأحاسيسه للمتلقي، مما يضفي على العمل صدقه وأثره.

وبيّن السبهاني أهمية مراعاة الفنان لتأويلات المتلقي: “فالفنان الذكي لا يرسم فقط لنفسه، بل يضع في اعتباره أن لوحته قد يشاهدها الكثيرون، كما أن كل متلقٍّ قد يرى هذه اللوحة أو العمل الفني من زاوية مختلفة، كلٌّ حسب خلفيته الثقافية والنفسية. ولذلك يسعى كثير من الفنانين إلى فتح المجال أمام المتلقي للتأويل، بل إنهم يتعمدون ترك مساحات رمزية غامضة تشد المتلقي إلى تفسير العمل بحرية. وفي المقابل يستخدمون رموزًا أو ألوانًا ذات دلالات مألوفة في الموضوعات التي يتناولونها. وقد ظهر ذلك جليًّا في فنون ما بعد الحداثة والفنون المعاصرة، إذ أصبح المتلقي مشاركًا في العمل الفني وأحيانًا جزءًا منه، بما يتيح له التفاعل المباشر مع العمل الفني. وهنا يدرك الفنانون أهمية تحقيق التوازن بين خصوصية التعبير وعمومية الرسالة، حتى يظل العمل صادقًا للفنان، لكنه قابلًا للفهم والتفاعل لدى الآخرين”.
وخلص إلى أن التقنية أداة، والمشاعر روح. وحيثما اجتمع الاثنان في يد فنان واعٍ ومدرك لفنّه وممارساته؛ استطاع أن يبدع لوحة فنية تُحسّ وتُفهم وتُخلّد.
وحول ما يجعل الفن التشكيلي فنًا بصريًا نوعيًا، وكيف يمكن أن يسهم في وعي الفنان ويعزز ذاته الفنية، قالت الفنانة التشكيلية ندى الرويشدية: “إن الجوانب الثقافية والفنية بشكل عام، والفن التشكيلي بشكل خاص، يُعدّ أصدق وسيلة تمكن الإنسان من التعبير عن ذاته ونفسه وعن المشاعر البشرية بشكل عام، وما يحيط بها من واقع وتحديات سواء فردية أو جماعية، وإن الوسائط البصرية والفنية تكشف عن أبعاد عميقة من المشاعر والأحاسيس قد لا تحققه اللغة أو الكلمة، كونها تفتح مساحة واسعة للتفاعل المباشر معها؛ فيجعل المتلقي يؤولها ويحاول فكّ رموزها، وهو ما يجعلها تجربة ذات بُعد مختلف قادرة على سبر أغوار المتلقي وفتح آفاق واسعة من التفكير والفهم في المشاعر والذات البشرية، فالخطوط والألوان والنقوش والعناصر والرموز المستخدمة في الأعمال الفنية تعزز من إمكانية عيش تجربة فريدة، يمكن من خلالها للمتلقي الولوج إلى عوالم من التجارب الذاتية المعقدة الكامنة خلف كل تجاربه السابقة”.

ورأت الرويشدية أن الفن البصري قادر على تجاوز الكلمات والمشاعر بأسلوب أكثر عمقًا، يلامس ذات الفنان والمتلقي معًا. فالطاقة البصرية التي يمثلها الفن تتفاعل بشكل عميق مع الذات البشرية؛ مما يخلق تجربة نفسية تتجاوز قدرة الإنسان على الفهم. ويتجلى ذلك بالشعور الذي يخلقه العمل الفني للفنان أو المتلقي على حد سواء، سواء أكانت المشاعر إيجابية أو سلبية. فالفنان بشكل عام يحاول ترجمة ما يدور بداخله وذاته ويحوّله بصريًا إلى عمل فني يمكن للمتلقي التفاعل معه بأي طريقة كانت.
وتابعت: “من خلال عملية الإبداع المستمرة للأعمال البصرية، يحاول الفنان جاهدًا التصالح مع نفسه وقراءة ذاته والغوص بها، دون أن يتدخل في ذات الآخرين. وإنما يحاول أن يوصل للعالم ذاته وإحساسه العميق وتجاربه الشخصية، وذلك هو غاية الفن الأسمى، فالفنان رسول مشاعره وأحاسيسه وتجاربه الفكرية والروحية. وقد يتفاعل الفنان مع ما يدور حوله في مجتمعه المحلي أو العالمي من قضايا اجتماعية وإنسانية وسياسية وهوية وانتماء وغيرها، ويحاول ترجمتها بصريًا بأسلوبه، مع كيفية تأثير هذه الأحداث عليه. فيسعى بداية إلى فهمها ثم ترجمتها بصريًا ونقلها للعالم للتفاعل معها فكريًا وبصريًا ووجدانيًا. لذلك نجد الفنان في محاولة مستمرة لقراءة ذاته والآخرين، وذلك مطلب مُلح؛ إذ لا يمكن للفنان أن يعيش في عالمه الخاص فقط، بل عليه أن يندمج مع وسطه فيتفاعل معه، ويسهم في نقل تفاصيله ليجعل المتلقي يتفاعل معها سلبًا أو إيجابًا”.

وخلصت الرويشدية إلى أن لغة الفن هي لغة عالمية، يمكن أن تتعدى الحدود والثقافات والشعوب. لذلك نجد أن أغلب الشعوب منذ القدم تتفاعل مع هذه المعطيات البصرية وتفهمها. وعليه صُنّف الفن البصري أداة فاعلة للتعبير والتنوير، ومصدرًا دائمًا لتعميق الوعي الإنساني، ووعاءً عميقًا لعكس ما يختلج في النفوس، وميدانًا رحبًا للتفاعل بين الداخل والخارج.
وبيّن الفنان التشكيلي مبارك السليمي كيفية ترجمة الفنان لصراعاته الداخلية إلى خطوط وألوان يفهمها الآخر، ليعكس مشاعره وأفكاره بشكل بصري مختلف عن الشعر أو الكتابة، إذ تُعد الرموز المرسومة باللوحة دلالات وجدانية يعبّر من خلالها الفنان عن مشاعره وما يعتريه من أحاسيس، وقد تكون بعض اللوحات مجرد نقلٍ لمنظر أشعره بالارتياح، أو أعاد له ذكريات بعض المواقف واللحظات، أو استوقفته مشاهد أعادته من إطاره الزمني الحالي إلى الماضي.

ورأى السليمي أن استمرار الفنان في إنتاجاته الفنية يجعل أعماله تتجمع لتشكّل مواقفه الحياتية وتجربته وممارسته. وبالتالي تكون بمثابة توثيق بصري للأحداث والمشاعر التي مرّ بها الفنان من مواقف حياتية وصراعات داخلية، وتابع أن للفن أثرًا على المتلقي كتواصل بصري غير مباشر. فمثلًا عند مشاهدة لوحة للبحر، قد يستقبل المتلقي ارتباطات معنوية غير محسوسة، لكنها تظهر في تعابيره؛ فمن ارتبط البحر لديه بالرزق يشعر بالانشراح، بينما من أصابه البحر بالفقد يشعر بالحزن، ومن رحل عنه عزيز يشعر بالاشتياق. وهذا يوضح أثر اللوحة على المتلقي.
وأوضح أن كل عمل ينتجه الفنان هو بمثابة نقلة زمنية لمستواه الفني والمهاري. فعند إنتاج أي لوحة تكون بمثابة توثيق لسيرته الفنية وسرد قصصي له، من حيث المواقف التي تتزامن مع إنتاجها والشخصيات التي كانت حاضرة في وقتها. فهي تبقى عالقة بذهن الفنان ويرويها عند الحديث عن لوحته، حتى لو كان عنوانها يشير إلى موضوع آخر. وفي الجانب الآخر هي تسرد التطور الفني والنوعي للفنان والمدارس التي يتنقل بينها عند إنتاج أعمال جديدة، وهو ما يسميه السليمي بـ “المتحف الزمني للفنان”.
وفي النهاية فإن الفن التشكيلي وسيلة قوية للتعبير عن الذات، ويمكن أن يكون له تأثير عميق على الفنان والمشاهدين على حد سواء، مما يخلق مساحة للتواصل والتفاهم.
وفي السياق ذاته، أوضحت الفنانة التشكيلية هاجر الحراصية كيف يكون الفن التشكيلي ملاذًا للشفاء والتأمل الذاتي، لكل من المبدع والمشاهد، قائلة: “أجد في الفن مساحة أوسع مما يمكن لحديث عابر أن يوفره. فعندما يصبح الفعل الإبداعي وسيلة لتفريغ الصراعات الداخلية وإسقاطها في عالم مغاير، يغدو الفن ملاذًا آمنًا للتعبير عمّا نحمله في أعماقنا من مشاعر وأفكار غير مدركة. وما إن يتجلّى هذا المحتوى الداخلي في صورة بصرية، حتى يبدأ في الكشف عن ذاته، ويمنحنا فرصة أكثر عمقًا لفهمه والاقتراب منه. يحيلني هذا دومًا إلى ذلك الشعور الذي ينتابني في كل مرة أنهي فيها عملًا فنيًا؛ إذ أشعر بأنني عبّرت عن شيء كان عالقًا في مكانٍ ما بين الوعي واللاوعي. والغريب أنني لا أعود أتذكر الموقف الذي ألهمني، بل أتذكر فقط جمالية العمل نفسه؛ كأنني انتزعت الألم وتركته يتخذ شكلًا آخر، أقلّ حدّة، وربما أكثر فهمًا”.

وأشارت إلى قول نيتشه: *”إننا نمتلك الفن حتى لا نُقتل بالحقيقة”*، فالفن أيضًا وسيلة لتلطيف قسوة الواقع، وللتعامل مع الحقيقة التي قد تكون ثقيلة على النفس. ومن هنا، يصبح الفن ملاذًا لفهم الذات دون الانهيار تحت ثقل الواقع. وهذا الدور لا يقتصر على الفنان فحسب، بل يشمل المتلقي أيضًا؛ فالتجربة لا تقل عمقًا بالنسبة له. ففي لحظة تأمل، قد يعثر المتلقي على إحساس مألوف، أو صورة تشبهه، أو حتى فكرة لم يكن يمتلك مفاتيح التعبير عنها. فالفن لا يفرض تفسيرًا واحدًا، بل يحمل كل المشاهد إلى التأويل، ويدعو كل من يقترب منه لأن يرى ذاته بطريقة مختلفة. وبهذا، يعمل كمرآة نفسية تثير التساؤلات، وتتيح لحظات نادرة من التأمل.
ورأت الحراصية أن العملية الإبداعية في جوهرها لا تتحقق إلا بوجود العناصر البصرية؛ فهي ليست مجرد تكوينات وتركيبات، بل رموز تفكير وتعبير تُبنى من خلالها الرؤية، مجسِّدة مواقف وتجارب تختزل في طياتها عمقًا يفوق الظاهر. فالفن ليس انعكاسًا للواقع فحسب، بل إعادة تشكيل له بوسائط يتجاوز أثرها الإدراك المباشر، لتكشف لنا عن ذواتنا كما لم نرها من قبل.