تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » إدغار ديغا.. اللوحة مسرح لدراما القلب

إدغار ديغا.. اللوحة مسرح لدراما القلب

إدغار ديغا.. اللوحة مسرح لدراما القلب

 

يعتبر الفنان إدغار ديغا (1834ـ1917) أحد مؤسسي الانطباعية، الذي كان يرفض هذه التسمية، ويفضل عليها اسم «الواقعية»، ولد في العاصمة الفرنسية باريس لعائلة ميسورة، واشتهر برسم بورتريهات اعتبرت الأفضل في تاريخ الفن. وقضى ما بين عامي 1854 و1859 في إيطاليا، ليدرس أعمال كبار فناني عصر النهضة، ويصقل مهاراته الفنية وأسلوبه في الرسم.

برع ديغا بشكل خاص في تصوير حركة الشخصيات التي يرسمها، وتميزت رسوماته بحمولة نفسية تبرز الصراعات الداخلية، وعزلة الحياة البشرية. في بداية حياته المهنية أراد أن يكون رساماً للموضوعات التاريخية، متأثراً بدراسته الأكاديمية، لكنه غيّـر مساره بالتركيز على مشاهد واقعية للحياة المعاصرة، فالتحق بمدرسة «ليسيه» وتخرج فيها في قسم الآداب عام 1853، وفي سن 18 حوّل غرفة في منزله إلى استوديو للفنانين، وعمل ناسخاً في متحف اللوفر، كما تابع دراسته بمدرسة الفنون الجميلة في باريس.

دراسات مكثفة
وفي عام 1855 التقى ديغا الرسام جان أوغست إنجرس، الذي كان يجله ولم ينس نصيحته: «ارسم خطوطاً أيها الشاب، والمزيد من الخطوط، سواء من الحياة أو من الذاكرة، وستصبح فناناً جيداً». درس الرسم في مدرسة الفنون الجميلة مع لويس لاموت، كما اتبع أسلوب إنجرس، وفي 1856 سافر إلى إيطاليا، وأقام في منزل عمته لورا في نابولي، وهناك أجرى دراسات مكثفة في الفن حتى أنجز لوحته الشهيرة (عائلة بيليلي) وفي تلك الفترة رسم نسخاً عديدة من أعمال مايكل أنجلو، ورافائيل، وغيرهما من فناني عصر النهضة.

تعرف لوحة «عائلة بيليلي» كذلك باسم «بورتريه العائلة»، وهي لوحة زيتية على قماش رسمها ديغا في فترة إقامته في إيطاليا، واللوحة محفوظة في متحف دورسيه، وتعتبر تحفة فنية أنجزها ديغا في فترة شبابه، وهي تصور عمته لورا وابنتيها الصغيرتين جوليا وجيوفانا، وزوج العمة البارون جينارو بيليلي، الذي عاش بين عامي 1812 و1864.

في اللوحة تظهر عمته لورا بفستان يرمز للحداد على والدها الذي توفي آنئذٍ، وملامح الحداد هذه تظهر كذلك في إطار الصورة الخلفي، وبرز وجه العمة لورا حزيناً وشاحباً، وهذا ما بدا كذلك على وجه إحدى البنات خاصة جيوفانا، في حين ظهرت أختها جوليا بصورة أقل شحوباً، أما الزوج جينارو بيليلي فظهر غير مكترث على الإطلاق، وبرز في البورتريه بشكل مغاير، كما لو أنه منفصل عن العائلة.

كان البارون جينارو مواطناً إيطالياً منفياً من نابولي، ويعيش في فلورنسا، كما أن شخصيته وعلاقاته بالعالم الخارجي ظهرت في كيفية تصويره في اللوحة، ومن خلال كيفية جلوسه وموقعه على مكتبه.

خلفية تاريخية
كانت هناك توترات في داخل منزل بيليلي، وهذا ما لاحظه ديغا، وأكده أحد أخواله بقوله: «الحياة المنزلية للعائلة مصدر تعاسة لنا، وأختنا لورا تعاني كثيراً»، كما اعترفت عمته لورا لاحقاً بأنها كأنما كانت تعيش في المنفى، وتفتقد عائلتها النابولية. وعلاوة على ذلك أكدت له أن زوجها كان «كريهاً وغير مخلص، وذا طبيعة بغيضة، وليست لديه مهنة جادة، وهو يقودني سريعاً إلى القبر»، وقد حرص ديغا على إبراز هذه الصراعات في اللوحة.

خلال حياته المهنية المبكرة، رسم ديغا بورتريهات لأفراد وجماعات كثر، وتعتبر «عائلة بيليلي» مثالاً واضحاً شديد البراعة في هذه الفترة، وقد كان مصوراً طموحاً. ففي اللوحة درس التأثيرات النفسية لعمته لورا، وزوجها وأطفالهما، واللوحة تشبه إلى حد كبير لوحته «الإسبرطي الشاب» والعديد من الأعمال اللاحقة، حيث انجذب ديغا إلى التوترات الموجودة بين الرجال والنساء، وأثبت بالفعل نضجاً في الأسلوب الذي ظل يطوره عن طريق اختياره لموضوعات إنسانية غير مطروقة.

تأثيرات الضوء
غالباً ما يتم تعريف ديغا على أنه رسام انطباعي، وهو وصف مفهوم، ولكنه غير كافٍ. فقد نشأت الانطباعية في ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر، ونمت جزئياً من واقعية رسامين مثل كوربيه. رسم الانطباعيون حقائق العالم من حولهم باستخدام ألوان زاهية «مبهرة»، مع التركيز بشكل أساسي على تأثيرات الضوء، لقد أرادوا التعبير عن تجربتهم البصرية في تلك اللحظة بالذات، أما ديغا فاختلف عن هؤلاء في أنه حرص كثيراً على تقليل ممارسته للرسم في الهواء الطلق، كما كان معنياً بإظهار الخلفية التاريخية والدرامية لمجمل الصور والبورتريهات التي ينجزها.

ووفقاً لمؤرخة الفن كارول أرمسترونغ: «كان ديغا غالباً معادياً للانطباعية»، كما أوضح ديغا نفسه لاحقاً، وكان يحرص على البحث والتفكير قبل مباشرته الرسم ويعود إلى ما أنجزه الرسامون الكبار، معتمداً على الإلهام والعفوية، والحالة النفسية، ومع ذلك فهو يوصف بدقة أكبر، بأنه انطباعي أكثر من كونه عضواً في أي حركة أخرى، حيث جسدت لوحاته مشاهد لا حصر لها من الحياة مع اللون والشكل، كما كان صديقاً لكثير من الفنانين الانطباعيين الرئيسيين: أبرزهم ماري كاسات ومانيه.

أسلوب
يعكس أسلوب ديغا احترامه العميق للرسامين الكبار، وكان جامعاً للمطبوعات اليابانية التي أثرت مبادئها التركيبية في عمله، كما فعلت الواقعية القوية للرسامين المشهورين مثل دومير وجافارني. وعلى الرغم من شهرته بالخيول والراقصين، بدأ بلوحات تاريخية تقليدية مثل «ابنة جيفتاه» (1859–1861) والإسبرطي الشاب (1860–1862)، ومع تقدمه التدريجي مال نحو معالجة أقل مثالية للشخصية.

وخلال حياته تراوح الاستقبال العام لأعمال ديغا بين الإعجاب والازدراء على نحو أقل، وقد حظيت كثير من أعماله بعرضها في صالونات الفن خاصة بين 1865 و1870 وبإشادة من بيير بوفيس، ودي شافان، والناقد جول أنطوان كاستانياري، وسرعان ما انضم ديغا إلى الانطباعيين، لكنه رفض القواعد والأحكام الصارمة للصالونات الفنية.

وكانت أعماله في العموم مثيرة للجدل، لكنه مع ذلك، كان موضع إعجاب بالجميع، ومن حيث الشكل تتمثل أصالته في تجاهل الأسطح الملساء والكاملة وخطوط النحت الكلاسيكي، وهذه زادت كثيراً من نسبة «الوهم والإيحاء» في لوحاته، لكنها طرحت كذلك أسئلة بحثية عميقة، حول ما هو «حقيقي» عندما يتعلق الأمر بالفن.

ويقر نقاد الفنون بأن ديغا، هو أحد الفنانين الكبار، و«أحد مؤسسي الانطباعية»، على الرغم من أن أعماله تجاوزت العديد من الحدود الأسلوبية، وقد حرصت الصالونات الفنية على عرض أعماله إلى جانب الشخصيات الرئيسية المؤثرة في الانطباعية، وقد صور ديغا من خلالها رسومات مؤثرة للحياة اليومية والأنشطة المتنوعة، وكان ذا تجربة لونية جريئة أثرت في جيل من الفنانين الشباب من بعده، وأبرزهم جان لويس فوريان، وماري كاسات، ووالتر سيكرت.

متاحف
وتُعرض لوحات ديغا ورسوماته في أهم المتاحف العالمية بينها: «متحف بيكاسو ـ برشلونة»، و«متحف الفنون الجميلة ـ بوسطن»، و«المعرض الوطني للفنون ـ واشنطن العاصمة»، و«متحف فيتزويليام ـ كامبريدج».

المصدر/صحيفة الخليج