من كان يُصدّق خروج حركة MeToo# (أنا أيضاً) المُناهضة للعنف ضدّ المرأة في العالم في وجه بابلو بيكاسو (1881-1973)، الفنّان التشكيلي الأكثر ذيوعاً وشعبية في تاريخ الفنّ الحديث، مُوجّهة إليه تُهماً تتعلّق بعُنفه للمرأة واحتقاره لها، رغم ما يتبدّى في لوحاته من اهتمام مُبطّن بملامحها وجسدها وتفكيرها، لدرجة يبدو فيها بيكاسو أنّه “لا شيء” من دون نسائه المُلهمات لسيرته الفنّية ومفاهيمه الجماليّة.
استطاع بيكاسو نحت تخيلاته من أفكارٍ سياسيّة (لوحة غرنيكا) وأسلوب فنّي تكعيبي (آنسات أفينون). ولم يكُن خروج “أنا أيضاً” اعتباطياً، بل من قُدرتها على خلق جدلٍ جديدٍ يُعيد التفكير في المرأة واستعادة كرامتها المسلوبة من لدن شخصيات طبعوا التاريخ بمواقفهم السياسيّة وأعمالهم الفنّية، لكنّ سوء تعاملهم مع المرأة في حياتهم يجعل هذه الحركة النسوية الحداثية القويّة تُعيد التفكير فيهم والكشف عن الجوانب المُظلمة في سيرهم، كما هو الحال مع الفنّان الإسباني بابلو بيكاسو.
وعلى الرغم من أن الحدث بدا عادياً للكثير من مؤرخي الفنّ في باريس وبرشلونة، في كون الحركة تتعمّد مثل هذه الخرجات من أجل لفت انتباه العالم لها، فإن أنّ ثقة الجماهير الشعبيّة وإيمانها القويّ بحركة “أنا أيضاً” جعلت الناس يُؤازرونها ويجعلون لسان حالهم الاجتماعي، بعدما فقدت المؤسّسات الرسميّة هذا الدور المركزيّ في إطار تحديث المُجتمع المدني، سيما وأنّ الحركة استطاعت في سنواتٍ قليلةٍ إسقاط عشرات رجال الأعمال والفنّانين والكتاب الأكثر تجذّراً في العالم، لما أضحى ينطوي عليه عملها من قوّة استقصائيةٍ رفيعةٍ قادرة على التأثير في مجريات البحث البوليسي وتوجيهه صوب حقائق مُدهشةٍ تتعلّق بعمليات التحرّش والاغتصاب والاعتداء ضدّ المرأة، ما جعلها تحظى باحترامٍ مُقتدرٍ من لدن الناس، بعدما فقدت بعض الجمعيات مصداقيتها حين يتعلّق الأمر بجهاتٍ نافذةٍ تتدخّل أحياناً لإجهاض عملية البحث والتدقيق في ملفات خاصّة بالمرأة وجسدها.
ولم يكُن غريباً خروج متحف بابلو بيكاسو في برشلونة، ثمّ في باريس، في شخص رئيسته سيسيل دوبريه بقولها للصحافة الفرنسيّة: “لا شكّ أنّ سبب الاهتمام العالمي بالهجوم على بابلو بيكاسو بسبب نسائه يعود أساساً إلى كونه الفنّان الأكثر شهرة وشعبية في الفنّ الحديث، وبالتالي، كان لزاماً تدميره وكأنّه تمثال أو صنم”. كان مُنتظراً من سيسيل دوبريه أنْ يكون حديثها عن بيكاسو دفاعياً، طالما تنتمي إلى مؤسّسة رسميّة، تخاف من انعكاس خروج الحركة المُندّدة بعنف بيكاسو ضدّ عشيقاته على أحوال المؤسّسة وراهنها.
كان رأيّ سيسيل مُخيّباً للآمال داخل فرنسا، أمام تنامي تعاطف الناس مع الحركة وإيمانهم بقُدرتها على الوصول إلى جديدٍ يُذكر ويُسقط معه الصورة الأيقونية المُفبركة لبيكاسو في علاقته بعشيقاته، وفي كونه أعاد الاعتبار لهنّ في لوحاته وحوّلهنّ إلى أيقونات خالدةٍ في الفنّ الحديث. وإذا كان صمت المُؤرّخ الفنّي عن انتهاكاته وفضائحه ومدى استغلاله للمرأة في لوحاته، فذلك يعود في أساسه إلى المكانة المركزيّة التي يحتلّها كفنّانٍ تشكيليّ مُجدّد في العالم، والدور الذي لعبته لوحته الزيتية “غرنيكا” التي ندّد واحتجّ على القصف الألماني لإسبانيا، بعدما جعلته اللوحة يحشد أجيالاً من الجماهير الشعبيّة التي تفاعلت مع هذا الموقف الغرامشي بالنسبة له كفنّان.
وعلى الرغم من ما خلقته اللوحة من دهشةٍ للمُؤرّخ الفنّ، فإنّها بدت وكأنّها قد تستّرت على المآزق والتخبّطات التي طبعت علاقته بالمرأة داخل عددٍ من لوحاته الشهيرة. يُسجّل تاريخ الفنّ نحو 6 نساء تأثرن بعنف بيكاسو، مُستغلاً أجسادهنّ داخل عددٍ من أعماله الفنّية، مثل: فيرناندي أوليفيه، وأولغا خوخلوفا، وماري تيريز والتر، ودورا مار، وفرانسوا جيلوت، وجاكلين روك. تُركّز الحركة على هؤلاء النساء وكيف جعلهن بيكاسو عرضة للاستغلال الفنّي داخل اللوحة، مُحوّلاً أجسادهنّ إلى استيهاماتٍ جنسية واضحةٍ في لوحاته. ويعتبر الكثير من نقّاد الفنّ، أنّه لولا وجود النساء في حياة بيكاسو ما كان سيكون أصلاً، لذلك تُعتبر المرأة أوّل مُلهمٍ في حياته الخاصّة، ما دفعه إلى الانتقال من مرحلة تصويرية إلى أخرى، وصولاً إلى تجربته التكعيبية التي حوّل فيها صُوَر العالم إلى مُكعّبات.
وعلى الرغم من أنّ عبقرية بيكاسو، لم تكُن على مُستوى الموضوع (المرأة) بقدر ما ارتبطت ارتباطاً شديداً بمباهج الأسلوب الفنّي وفتنة الشكل الجمالي، فإن “أنا أيضاً” وجدت حسب منظورها الدقيق أنّ وراء هذه العبقرية، ثمّة تاريخٌ من الجُرح والعُنف والتنكيل في حقّ نساءٍ، طالما اعتبرن جوهر لوحاته التشكيليّة والسرّ الكامن في نجاحاته وعبقريته في الابتكار والعثور على أسلوبه الجمالي.
تغلب الإيحاءات الجنسية والشهوانية على مُخيّلة بابلو بيكاسو التصويرية، ما يجعل بعض لوحاته تنميطية، لكونها لا تسعى فقط إلى تقديم أسلوبه الفنّي عبر مفهوم الشكل، ولكنْ بتوليف جسد المرأة وجعله مُقدّماً عبر هذا الشكل الجمالي الذي جعله شهيراً في العالم. بكثيرٍ من الجهد والبحث، تعمل حركة “أنا أيضاً” اليوم، على تكسير صورة بيكاسو والمخيال الذكوري الذي طالما فجّر به هواجسه السادية في تعذيب المرأة وجعلها في لوحاته مجرّد جسدٍ تفترسه العين وتحلم به الأجيال.
إنّ حركة “أنا أيضاً” تنتصر لنساء بابلو بيكاسو. إنّها تُحرّرهنّ من سراديب التاريخ وقهره وعذابه من خلال سُلطة فنّانٍ ساديّ يتمتّع بتعذيب المرأة، بطريقة تبدو عشيقاته اليوم في شعارات “أنا أيضاً” وكأنّهنّ يُبعثن من جديدٍ ويُحطمن لوحاته وصُوَره على جدران متحفه الباريسي في فرنسا وأمام أنظار العالم ككلّ.
المصدر/العربي الجديد