تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » بعيداً عن الجمهور

بعيداً عن الجمهور

بعيداً عن الجمهور

علاء الدين محمود*

الفن التشكيلي، في عالمنا العربي على وجه التحديد، ليس كبقية الإبداعات كالشعر والمسرح أو السينما؛ بل يقف بعيداً عن الجماهير، ربما إلا تلك الفئات المتخصصة أو ذات العلاقة بالفنون، فالذي يتابع الحراك الثقافي في العديد من البلدان العربية، يلاحظ أن هناك اهتماماً بالأمسيات الشعرية ومعارض الكتب ومهرجانات الموسيقى، لكن الفعاليات التشكيلية ظلت لا تجد مثل هذا الاهتمام الجماهيري، هل لأنها صعبة وتحتاج إلى ثقافة معينة وذائقة بصرية؟ وكيف يمكن أن يتعاطى الجمهور مع ذلك الفن؟ كيف يمكن تجسير العلاقة بين الأشخاص العاديين والفنون البصرية؟

من خلال كل تلك الأسئلة المتعلقة بالفن التشكيلي، فإن الكثيرين ينظرون إليه كإبداع يقبع بعيداً في برج عاجي، يحلق بعيداً عن القضايا التي تهم الناس والجماهير، وحتى مناسباته ومعارضه ظلت تقتصر على الصفوة والمهتمين، وتعقد في قاعات مغلقة، ومن النادر أن يتم كسر تلك القاعدة جهة قيام أنشطة تشكيلية جماهيرية في الهواء الطلق أو الأماكن العامة، وهو الأمر الذي عزز من النظر إليه كإبداع خاص بالنخبة دون غيرها، لتنشأ حالة «طبقية» من حيث وجود طبقة من النخب من المهتمين من الفنانين والذين تلقوا تعليماً جيداً، مقابل جمهور عريض لا يفقه إلا القليل عن اللوحة والتكوين الفني.

سلطة

ولعل السؤال الأكبر الذي يفرض نفسه بقوة، هو: كيف استطاع الفن التشيكي أن يعبر عن البيئة والعادات والتقاليد والمجتمع والتغيرات التي تحدث فيه؟ فنحن هنا أمام مفارقة كبيرة، وهي أن يعمل إبداع ما على التعبير عن الناس، من دون أن يكون بمقدورهم أن يفهموا ما الذي أمامهم في اللوحة أو التكوين الفني المعين، وربما ذلك يجرح بعض الشيء في رسالة ذلك الفن العظيم باعتبار أن الرؤية أو المحتوى الذي تحمله تلك الرسالة محاطة بتشويش كبير وهو وجود المتلقي خارج الإطار الدلالي؛ أي عدم مقدرته على فهم الرسالة إلا من خلال الشرح، لذلك نلاحظ في الكثير من المعارض وجود الفنان نفسه ليقوم بتلك العملية «الشرح»، على الرغم من أن العمل الفني نفسه متعدد الدلالات وقابل لمختلف أنواع التفسير، بالتالي نحن أمام مشكلة مركبة، فمن ناحية هناك عدم فهم الجماهير للأعمال الفنية، ومن جانب آخر فإنه لا يوجد اجتهاد كبير في اتجاه جعل الإبداعات التشكيلية أكثر وضوحاً وقابلة للقراءة؛ حيث إن الفنانين أنفسهم في كثير من الأحيان يبدو أنهم سعداء بسلطة المعرفة الحصرية تلك، ليصبح فناً نخبوياً يطرح في إطار ضيق، وتكون مناسباته وفعالياته أمكنة لتجمع تلك النخب.

إن ما يمكن أن يسهم في دفع حركة الفنون التشكيلية واندماجها وسط المجتمع؛ هو الإكثار من تنظيم الأنشطة والفعاليات بصورة مستمرة غير منقطعة؛ ذلك يشكل نوعاً من الاعتياد لدى الجماهير، وفي ذات الوقت يرفع من شأن الذائقة البصرية والجمالية، ويخلق قضية مهمة وهي التجربة لدى المتلقي، وفي هذا السياق فإن من أكثر المعالجات التي يمكن أن تبرز هنا لحل تلك المعضلة هي أن تدخل الفنون التشكيلية بمختلف تياراتها واتجاهاتها وممثليها من العرب والفنانين العالميين داخل منظومة المناهج التعليمية؛ ذلك هو الأساس الذي يمكن أن عبره صناعة أجيال مثقفة فنياً وقادرة على قراءة الأعمال الإبداعية وتأويلها وتفسيرها.

حركة نقدية

ويأتي في سياق العوامل التي يمكن أن تسهم في نشر الحراك التشكيلي، ضرورة وجود حركة نقدية فاعلة، وهذه المسألة أثير حولها جدل كبير، خاصة تلك النقاشات والكتابات التي تتحدث عن غياب النقد عن ساحة الفنون التشكيلية؛ بل إن الكثيرين قد طرحوا سؤال العلاقة الملتبسة والغامضة بين النقد والتشكيل في العالم العربي، وهي مسألة في غاية الأهمية، لأنها مرتبطة بحقيقة تمثل ذلك الفن للواقع الاجتماعي والتعبير عنه، وإلى أي مدى كان قادراً على استيعاب التيارات الفنية العالمية الحديثة منذ القرن العشرين إلى اليوم، وهل نجح حقيقة في ذلك الأمر؟؛ بمعنى هل التيارات الإبداعية المطروحة في العالم العربي اليوم، والتي هي في حقيقتها محاولة لتمثل تلك المدارس والتيارات العالمية، هل نجحت بالفعل في تلك العملية وبالتالي شكلت إضافة لها أم كانت خصماً عليها؟

والإجابة عن ذلك بالطبع رهينة بوجود الحلقة المفقودة وهي العملية النقدية التي هي صاحبة الإسهام الأوفر والأكبر في تطور الحركة التشكيلية، فإذا اعتقد أي من الفنانين العرب، أنه ينتمي إلى المدرسة الحداثوية التشكيلية المعينة، فإن معرفة مدى تمثله لها هو النقد بطبيعة الحال، وعلى الرغم من أن الكثيرين يعولون على النقد الأكاديمي لكن هنالك دائماً إشكاليات متعلقة به؛ فالحركة العلمية النقدية، على الرغم من أهمية الدور الذي تلعبه، دائماً ما تعبر عن وجه السلطة السائدة، وهنا يبرز دورها في وضع أسس ومعاير جمالية متلائمة مع اتجاهات تلك السلطة أو ذاك النظام، في حالة قريبة مما كان يحدث أيام السلطة السوفييتية، والتي كانت قد أقرت العديد من الأساليب والأهداف الجمالية التي تتناسب مع طبيعة النظام السياسي والاجتماعي والثقافي، وهذا من شأنه أن يجعل الذوق الفني متدنياً، وهو إشكال يتطلب حله مساحات أكبر من الحريات، وكذلك هنالك مسألة لا تقل أهمية، وهي رعاية المواهب والاهتمام بالبنية التحتية من حيث توفر صالونات العرض والمراسم ومتاحف الفنون وتطوير الكليات المتخصصة التي تدرس الفنون، وهذه مسألة صارت ترعاها بعض الدول العربية التي اتجهت نحو جعل الفنون ضمن خططها التنموية والاقتصادية على نحو ما يحدث في الإمارات وبعض دول الخليج، وما كان يحدث سابقاً في بعض البلدان التي اشتهرت بالحراك في مجال الفنون التشكيلية.

وكذلك لابد أن تعمل الحركة النقدية المنشودة على ملاحقة التطور الذي يحدث في الحركة التشكيلية العالمية، وأن تسهم في عملية التقييم، وشرح الأسباب التاريخية والفكرية التي أدت إلى قيام التيارات الفنية والإبداعية في الغرب، على سبيل المثال؛ وذلك أمر شديد الأهمية حتى يضع الجميع أمام إجابة حول حقيقة الفن التشكيلي العربي، ومدى نجاحه في التعبير عن البيئة والثقافة المحلية والعربية، وهل ينتمي إليها فعلاً؟ فالتيارات الفنية لا تنشأ من فراغ؛ بل هنالك متغيرات عصرية وعوامل فكرية واجتماعية وثقافية أدت إلى قيامها، فدور النقد هو أن يرشدنا إلى مدى نجح الفنان المعين، من خلال أعماله، في تمثل التيار الفني المحدد، بالتالي فإن غياب النقد قد أسهم فعلاً في تلك الفجوة بين الجمهور والفن التشكيلي، وغيبت المتلقي العادي من متابعة تطور ذلك الفن ومدى أهميته في الحياة.

منعطفات

إن الفنون الجميلة والتشكيلية هي من الإبداعات الراقية التي يمكن أن تشكل قاعدة عريضة من المهتمين، والواقع أن الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية أيضاً تلعب دوراً مهماً في درجات اهتمام الجماهير في ذلك الفن، ولاشك أن تغيير المفاهيم ومنها نخبوية الفن التشكيلي، يرتبط بمتغيرات عديدة، ففي بعض المنعطفات نجد أن هنالك إقبالاً على الإبداعات التشكيلية مثلما حدث من انتشار فن «الغارفيتي» «الرسم والكتابة على الجدران»، في بعض الدول العربية التي تعرضت لمتغيرات سياسية؛ حيث انتشر ذلك الفن في الأماكن العامة؛ بل وكذلك أقيمت المعارض الفنية في الطرقات والمقاهي ووجدت أصداء جيدة وحضوراً مميزاً؛ وذلك مثال يشير إلى أن الجماهير قادرة على استيعاب الفن التشكيلي والتصالح معه متى ما توفرت ظروف معينة، أو بروز اهتمام أكبر به من أجل كسر طابعه النخبوي وجعله فناً جماهيرياً مثله مثل الإبداعات الأخرى في كافة المجالات.

 

نقلاً عن صحيفة الخليج