تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » فانغيليس.. موسيقيّ يوناني معلّمتُه الطبيعة

فانغيليس.. موسيقيّ يوناني معلّمتُه الطبيعة

فانغيليس.. موسيقيّ يوناني معلّمتُه الطبيعة

 

في السابع والعشرين من آذار/ مارس الماضي، مرّت الذكرى الثمانون لميلاد الموسيقي اليوناني إيفانجيلوس باباثاناسيو، المعروف باسم فانغيليس (Vangelis)، والذي غادَر عالمنا في باريس يوم السابع عشر من أيار/ مايو من العام الماضي، نتيجة قصور في عضلة القلب.

مسيرة فانغيليس الفنّية، التي امتدّت لأكثر من خمسين عاماً، لا يمكن اختزالُها في صنف موسيقي واحد؛ حيث طاف بين الأنواع، وتجوّل من فئة إلى أُخرى، متبنّياً ومتخلّصاً من الأشكال الموسيقية، باختلافها، بحثاً عن صوته الخاص، الذي نتذكّرُه به اليوم: صوتٌ أثيري ومستقبليّ، ومؤلَّفات موسيقية ملحمية تميّزت بموتيفات بسيطة.

وُلد فانغيليس عام 1943 في بلدة أغريا اليونانية الساحلية، وانجذب إلى الموسيقى مبكّراً؛ حيث بدأ العزف على البيانو في سنّ الرابعة تقريباً. جرّبَ طُرُقاً مختلفة لإنتاج الأصوات الموسيقية؛ إذ كانت أذناه في بحث دائمٍ عن أصوات جديدة. ورغم أنه تعلّم الموسيقى ذاتيّاً، ولم يتلقّ دروساً تقليدية لقراءة النوتة، إلا أنّ ذلك لم يؤثّر بشكل سلبي على مسيرته. في لقاء معه يعود إلى 2011، يقول: “كانت الطبيعة مدرّبتي الأساسية. معلّمتي هي الطبيعةُ نفسها. معلّمتي هي الموسيقى بحدّ ذاتها”.

اشتهر، لأوّل مرّة، مع فرقتَي “البروغريسيف روك” الطليعيَّتين: “طفل أفروديت” و”فورمنكس”، اللتين سجّل معهما ثلاثة ألبومات. بعدها، انطلق في طريق العزف المنفرد والغزير بحثاً عن صوتهِ المُميّز على آلة المُركِّب (Synthesizer). وقد تحصّل الفنان اليوناني على أوّل اعتراف بموهبته بدايةَ السبعينيات في باريس، مع تأليفه ألبومات موسيقى تصويرية لسلسلةِ أفلام وثائقية عن الحيوانات من إخراج فريديريك روسيف: “نهاية عالم الحيوان” (1972)، و”الحفلة البرّية” (1976)، و”الأوبرا البرّية” (1976)، كما سجّل أوّل ألبومٍ منفرد خلال الفترة نفسها.

انتقل عام 1975 إلى لندن وبنى استديو منزليّاً خاصّاً به، وسجّل فيه العديد من الألبومات الناجحة والمؤثّرة، مثل “النعيم والجحيم”، و”حلزونيّ”، و”الصين”. وصلَت أعمالُه لذروة نجاحها في الأسواق خلال الثمانينيات والتسعينيات، بعد فوزه بجائزة “أوسكار” لأفضل موسيقى تصويرية أصلية عن فيلم “عربات النار” (إخراج هيو هدسون)، عام 1981، وترشّحت معزوفته “غزو الجنّة” لفيلم “1492: غزو الجنّة” (إخراج ريدلي سكوت)، لـ”جائزة غولدن غلوب” عن أفضل موسيقى تصويرية أصلية عام 1982، وتصدّرَت القوائم الأوروبية وبيعت منها ملايين النُّسخ.

عمل فانغيليس مع فرق الأوركسترا وقادها، بالإضافة إلى عملهِ على آلات المزج والأدوات الإلكترونية الأُخرى، وظهر هذا في عمله على فيلم أوليفر ستون “الإسكندر” (2004)؛ حيث قاد أوركسترا تتكوّن من العديد من الآلات الكلاسيكية. واتّضحت قدراتُه الموسوعيّة أيضاً في قيادتهِ للحفل الترويجي المهيب للنسخة الجديدة من ألبومه “ميثوديا” الذي أُقيم عام 2001 في معبد زيوس الأولمبي بأثينا.

كان الموسيقيّ، طوال حياته، شغوفاً بكلّ ما يتعلّق بالفضاء الخارجي، وبالتفاعُل معها، وتعاوَن في سنواتهِ العشرين الأخيرة مع “ناسا” ومع “وكالة الفضاء الأوروبية” على مشاريعِ موسيقية مثل: “ميثوديّا” (1993)، و”روزيتّا” (2016)، و”من جونو إلى جوبيتير” (2021)، وهو ألبومُه الأخير.

ومع اطّلاعنا على هوسه بالفضاء، يزول التعجُّب من تأليفه لموسيقى تُردِّد أصداء هذا الهاجسِ، بإشارات، وإيحاءات إلى شيء من خارج الأرض، إلى شيء هائلٍ وغامض في الآن نفسه. تصير الموسيقى هنا فِعلاً ذاكريّاً، قناةً إلى العالم الميتافزيقي. وسواء كان فانغيليس واعياً أم لا، فقد اتّبعت حياتُه هذه الإيحاءات غير المُستقرّة، وبقي مرتحلاً في الزمان والمكان، وقد تجلّى ذلك في مزج موسيقاه بين عوالم مختلفة، ومتقلّبة، تجمع بين عناصر الجوّانية الإنسانية وبين تلك التي حِيك منها نسيجُ الكون.

على عكس العديد من معاصريه، لم يهتمّ فانغيليس بالاستفادة من شهرته؛ إذ اعتقَد بعدم إمكانية الخلط بين النجاحِ والإبداع الخالص، وكان يقدِّر الحرية والاستقلال أكثر من غيرهما، وأراد أن يظلّ بعيداً عن أعين الجمهور، إذ نادراً ما أجرى مقابلات، ولم يشارك تفاصيلَ حياته الشخصية مع متابعيه على الإطلاق. وقذ ذكر أنّه لم يكن مهتمّاً بصناعة الموسيقى، وأنَّه كرّس وقت فراغه لعزف وتأليف الموسيقى والرسم، وقد نتج عن حبّه للرسم معرضٌ ضمّ سبعين لوحة أُقيم عام 2003 في إسبانيا، وعُرض بعد ذلك في جنوب أفريقيا حتى نهاية 2004.

حازَ الموسيقي اليوناني العديد من الجوائز، وأنتَج مجموعة كبيرة من الأعمال المتنوّعة والشاملة، ابتداءً من تعاونه مع موسيقيي البوب، ومروراً بمؤلَّفات الروك التجريبية، والأعمال السمفونية الكلاسيكية، وموسيقى الجاز، وليس انتهاءً بالموسيقى المسرحية والتصويرية، وموسيقى الفضاء.

عَزف فانغيليس وأدّى أكثر من خمسين ألبوماً، وترك وراءه العديد من المقطوعات الموسيقية غير المنشورة، خاطّاً بذلك واحدة من أبرز التجارب الموسيقية التي عرفتها أوروبا خلال القرن العشرين.