فالنتين ألكساندروفيتش سيروف (1865 – 1911) أحد أهم فناني البورتريه في الإمبراطورية الروسية، ولد في سانت بطرسبرغ، وهو ابن الملحن الروسي والناقد الموسيقي ألكسندر سيروف، نشأ في بيئة فنية، شجعه والداه على متابعة مواهبه، وفي طفولته درس في باريس وموسكو تحت إشراف الفنان الروسي أوكراني النشأة إيليا ريبين في أكاديمية سانت بطرسبرغ للفنون (1880-1885) تحت إشراف الفنان بافيل تشيستياكوف.
تأثر إبداع سيروف المبكر بطريقة ريبين الواقعية، كانت التأثيرات الأخرى على سيروف، هي اللوحات التاريخية التي شاهدها في متاحف روسيا وأوروبا الغربية، والصداقات مع ميخائيل فروبيل ولاحقاً كونستانتين كوروفين، وأيضاً من خلال تأثره بالجو الإبداعي الذي ساد في ذلك الوقت.
من أعماله المبكرة (الفتاة والخوخ- 1887) و( الفتاة التي تغطيها الشمس- 1888) وهما معروضتان في جاليري «تريتياكوف». ركز في هذه اللوحات على عفوية النماذج التي يرسمها، وتطور الضوء واللون، والشعور بصفاء الجو والإدراك الخلاب للعالم من حوله، ظهرت ملامح الانطباعية الروسية المبكرة في أعماله على الرغم من أن سيروف لم يكن على علم بعد بأعمال الانطباعيين الفرنسيين في وقت عمل تلك اللوحات.
خصائص
من عام 1890 فصاعداً، أصبح فن البورتريه هو الأساس في أعمال سيروف. في هذا المجال، أصبح أسلوبه المبكر واضحاً من خلال لوحات جديرة بالملاحظة بما فيها خصائص نفسية، وكانت نماذجه أو موديلاته الفنية المفضلة تتكون من الممثلين والفنانين والكتّاب، والنساء الشهيرات، مثل: كونستانتين كوروفين (1891) وإسحاق ليفيتان (1893) ونيكولاي ليسكوف (1894) ونيكولاي كورساكوف (1898)، وجميع هذه الأعمال من ضمن مقتنيات جاليري «تريتياكوف».
في الفترة الأخيرة من حياته، طور سيروف اتجاهاً جديداً في الفن، بالتركيز على بورتريهات تظهر الشحنة الداخلية من الصدق والحميمية والدفء وأيضاً العفوية، خاصة في صور الأطفال والنساء. كان معنياً بإظهار الإيماءات النفسية في النماذج المرسومة، للكشف عن عفوية الحركة الداخلية وتأكيدها، وكثيراً ما مارس تقنيات عديدة في رسوماته سواء بالألوان المائية والباستيل والطباعة الحجرية وغيرها، خاصة ما بين عامي 1900 و1909 وهي الفترة التي طبعت أعماله بمسحة رومانسية ظاهرة، ويمكن إدراج لوحة «هنرييتا هيرشمان» ضمن هذه الفترة.
رسم سيروف لوحة «هنرييتا هيرشمان» التي عاشت بين عامي (1885 – 1970) في عام 1907، وهي من الأعمال التي كان سيروف يبحث من خلالها عن حل جديد، يساعده في الكشف عن طبيعة النموذج الذي يرسمه، كان يقول: «كل لوحة تشكل ما يشبه المرض بالنسبة لي»، أما ابنة سيروف فتذكرت أن الكثيرين سعوا للحصول على شرف أن يرسم والدها صورهم الخاصة.
قواعد
اللوحة تصور «هنرييتا هيرشمان» على منضدة الزينة مملوءة بالتفاصيل المثيرة للاهتمام، وفي الواقع، كان سيروف قادراً على تقديم الموديل بالطريقة التي تريد هي أن ترى نفسها بها، وكان هذا يشكل له تحدياً كبيراً، فقد كان يستجيب لطلب الموديل، ولكن، مع قواعد لا ترحم بالنسبة له كفنان، هذه القواعد كانت تتطلب منه التركيز في جوهر البورتريه الذي يعمل عليه، وهذا شأن لوحة هنرييتا هيرشمان التي حققت هذا المزيج المعقد بين طلب الموديل وتلك المهارة الفنية في رسم التفاصيل كالزي والإكسسوارات والتكوين أو الحل التركيبي بشكل عام.
رسم سيروف هنرييتا؛ وهي زوجة جامع الفن الشهير فلاديمير أوسيبوفيتش، وقد قام بتصويرها في حلة مميزة من الأناقة؛ حيث تظهر هنرييتا أمام مرآة منضدة الزينة في مخدعها، ما يوحي بلحظة حميمية وعائلية دافئة، ومع ذلك، تنفجر هذه الصورة كصاعقة على المشاهد، لأن صاحبة الصورة تبدو غير متناغمة مع توقع هذا المشاهد، فهي بالكاد توجه نظرها نحوه، هي في الواقع لا تراه؛ بل تُعنى أكثر برؤية نفسها، وبالحكم على تعابير وجهها، تبدو على مسافة بعيدة من نظر المشاهد.
انعكاس
ما يمنح هذه الصورة أهمية مضاعفة، أنها تظهر هنرييتا واقفة وظهرها إلى المرآة، وقد عرف سيروف تماماً كيفية اختيار الوضعيات والإيماءات لنماذجه: هنا يبدو أن هيرشمان تريد أن تبرز المجوهرات الثمينة في أصابعها.
في المرآة، يمكن للمشاهد رؤية انعكاس الفنان ذاته – هذا هو العمل الوحيد لسيروف، الذي استدعى منه حواراً داخلياً (حوار بين الفنان والنموذج) فقد كان شديد التركيز ليظهر الشحنة الداخلية لدى هنرييتا، فكونه يعد فناناً دقيقاً كان يشعره بالقلق الشديد في كل مرة يمارس فيها الرسم؛ بل إنه لم يكن دائماً راضياً عمّا يقوم به، وكان يمكنه بسهولة تدمير صورة أوشك على إكمالها وبدء واحدة جديدة.
يسلط الرسم الضوء على طاولة المخدع في غرفة هنرييتا، الطاولة مصنوعة من خشب البتولا، تبعاً لطراز الإمبراطورية الروسية بداية القرن التاسع عشر، حصل عليها زوجها فلاديمير أوسيبوفيتش قبل وقت قصير من بدء العمل على الصورة. ساعد ظهور هذه التفاصيل الداخلية سيروف على فهم ما يجب أن تكون عليه الصورة.
أما الزجاج على الطاولة فهو علامة على الزمن، لأنه قبل عشرين عاماً من زمن تلك الصورة، لم تكن المناضد أو الطاولات تغطى بالزجاج، ولكن مع التطور السريع لصناعة العطور في نهاية القرن التاسع عشر، كان لابد من أن تكون أسطح الطاولات محمية، فقطرة صغيرة من العطور والكولونيا، التي تحتوي على قاعدة كحولية، قد تدمر على الفور السطح المصقول للطاولة الخشبية الثمينة، التي كانت تغطى بقشرة من (طبقة اللك) باهظة الثمن.
تعد وفرة الأشياء الصغيرة في الغرفة علامة على الأسلوب الحداثي في بداية القرن العشرين، وهي الفترة التي اتسمت بالبرجوازية، وفي اللوحة تظهر لوحة على الحائط، محاطة بإطار من (خشب الماهوجني) الذي ساد في فترة الحرب في عام 1812، وهي فترة الغزو الفرنسي لروسيا وشكل نقطة تحول في الحروب النابليونية، وبالنظر إلى أن اللوحة رسمت في عام 1907، فإن زمنها ليس بعيداً عن ذكرى هذه الحرب.