لعل أكثر ما يتميز به أسطورة الفنون العالمية الرسام الإيطالي، ليوناردو دا فينشي، «1452 1519»، هو المقدرة على تقديم نماذج مختلفة ومتباينة في الرسم بأساليب مبتكرة، بطريقة تدهش الناظر، فلا عجب أن الكثير من لوحاته تحمل أسراراً لم يتم اكتشافها إلا بعد تطور العلوم ومدارس النقد الفني، ولعل أكثر الإبداعات التي برع فيها دا فينشي بصورة خاصة هي فن «البورتريه» حيث ظل الفنان يتوهج في هذا النوع الفني، إذ قدم فيه عصارة تجاربه الجمالية، ولئن كان لوحة «الموناليزا» قد أخذت النصيب الأوفر من الشهرة فإن هنالك العديد من البورتريهات شديدة الجمال.
لوحة «جينيفرا دي بينشي»، تعد واحدة من الأيقونات الفنية والإبداعية الخالدة لدا فينشي، وهي تنتمي إلى فن البورتريه، قام الفنان برسمها في الفترة ما بين 1474 و1476، وهي أحد الشواهد على براعة وعبقرية دا فينشي، فإذا كانت الموناليزا تقابل الجمهور والمشاهدين بتلك الابتسامة الشهيرة الغامضة والغريبة التي تحمل الأسرار، فإن «جينيفرا دي بينشي»، لا تخلو هي الأخرى من الغرابة، لكنها تحمل تفاصيل وجه عابس وحزين وأبعد ما يكون عن الابتسام، غير أن اللوحة تعبر بالفعل عن وله هذا الفنان الخالد برسم ملامح الوجه بشكل واضح ونابض بالحياة، لكن يصعب في الوقت ذاته كشف حالاتها النفسية، وهو الأمر الذي يستفز المشاهدين كثيرا ويحرك فيهم الأسئلة.
الفتاة التي رسمها دا فينشي في اللوحة، هي شخصية حقيقية، فهي امرأة تدعى جينيفرا دي بينشي، تنحدر من أسرة أرستقراطية من القرن الخامس عشر في فلورنسا، حيث ولدت تلك الفتاة في عام 1458، وكانت من الشخصيات المعروفة في مجتمع ذلك العصر، واشتهرت بجمالها وذكائها وثقافتها الواسعة، الأمر الذي جعلها مصدر إعجاب للشباب حينها، ولأن تلك الفتاة كانت قد حازت على كل تلك الصفات الجميلة، فقد تبارى الشعراء في كتابة نصوص عنها، حيث كانت موضوعاً لعشر قصائد كتبها أعضاء دائرة «ميديشي»، ومنهم: كريستوفورو لاندينو، وأليساندرو براتشيسي، ولورنزو دي ميديشي.
شهرة
نتيجة للشهرة الكبيرة التي وجدتها اللوحة، فقد تم تضمينها كلوحة جدارية في معبد «سانتا ماريا نوفيل» في فلورنسا بواسطة الرسام الإيطالي دومينيكو غيرلاندايو، وذلك ما ذكره الرسام الإيطالي والمهندس معماري جورجيو فاساري المعروف بكتاباته الشهيرة لسيرة الفنانين الإيطاليين.
اللوحة رسمت بألوان الزيت على خشب شجر الحور، وتظهر فيها السيدة دي بينشي بوجه حزين وتعبيرات مبهمة، ونظرات هائمة بعينين كبيرتين وواسعتين، وترتدي الفتاة ذات البشرة البيضاء ثوباً باللون البني وفيه بعض من الخيوط الذهبية وتلف على رقبتها شالاً أسود اللون، وتعكس نظرتها جمالاً استثنائياً يلخص عصر النهضة الكلاسيكي، وتبرز في اللوحة إضاءة غريبة واهتمام كبير بالتفاصيل حيث تظهر بعض الإضاءة على شعر الفتاة المموج، على غرار طريقة الطلاء الفلمنكية.
وضع الرسام بعضاً من بصمات أصابعه في اللوحة تاركاً ذلك الأثر ملحوظاً فيها، إذ يقال إن دا فينشي قد استخدم يده في رسم اللوحة إلى جانب الفرشاة، وذلك من أجل مزج الألوان بطريقة تنتج حواف ناعمة ورقيقة، وتظهر براعة الفنان في قدرته على إضفاء جمال لامع على ملامح المرأة، وهي تنظر بكبرياء مشوب بقدر غير قليل من التكتم والغموض على خلفية أشجار معتمة وأجواء ضبابية، توحي بالشعور بالغرابة، ولعل أبرز سمات هذا البورتريه هي طريقة الفنان في تمثيل الشعر المجعد والبشرة الشاحبة، وهما سمتان كان دا فينشي بارعا على وجه الخصوص في توظيفهما في أعماله بطريقة بديعة ومبتكرة.
فضيلة
الملاحظة الأبرز في اللوحة، تلك الخلفية التي وظف فيها الفنان نبات العرعر الذي يحيط برأس الفتاة، وعادة ما تستخدم هذه الشجرة في ذلك الوقت للزينة، ولكن لها دلالات أخرى كذلك فهي تشير إلى الفضيلة، كذلك كان نبات العرعر بمثابة الشعار الشخصي لبرناردو بيمبو، سفير البندقية في فلورنسا في ذلك الوقت، ويقال إن هذا الرجل كانت تجمعه علاقة حب بتلك الفتاة، بل وتزوجها بعض الوقت وكتب فيها قصائد كثيرة، بل ويري بعض المؤرخين أن دا فينشي قد رسم هذه اللوحة بطلب من لبرناردو بيمبو، تعبيراً عن إعجابه بها.
اختلف المؤرخون في تبيان مناسبة اللوحة، لكن أكثر الروايات رواجا، أن دا فينشي قام بإنجاز هذا العمل الفني بمناسبة ذكرى زواج جينيفرا من لويجي دي برناردو نيكوليني، أحد وجهاء المجتمع وقتها، وكانت الفتاة حينها في سن 16 عاماً، بينما هناك رواية أخرى مفادها أن اللوحة قد رسمت في وقت كانت فيه الفتاة قد خرجت من تجربة طلاق من برناردو بيمبو، وربما ما يؤكد على رجاحة تلك الرواية ذلك الحزن الشديد الذي يكسو وجه الفتاة، غير أن اللوحة بشكل عام تقف شاهداً على براعة دا فينشي الذي عمل على تأكيد الشعور بالحزن عبر لعبة الضوء والظل، حيث ركز في العمل بصورة أساسية على الوجه الشاحب للفتاة وعينيها وعظام الوجنتين العريضة.
ويروى أن اللوحة كانت في الماضي أكبر من ذلك ولكن تم اقتطاع جزئها السفلي، وذلك على الأرجح بسبب التلف الذي أصاب اللوحة، ويعتقد أن ذراعي دي بينشي ويديها قد فقدت، وكانت الناقدة الفنية سوزان دوروثيا وايت قد أعدت رسما توضيحيا لكيفية وضع ذراعي الفتاة ويديها في اللوحة الأصل قبل التلف، ويعتبر العمل واحدا من المعالم البارزة في المعرض الوطني للفنون في واشنطن، و تحظى اللوحة بإعجاب الكثيرين ذلك لتصويرها مزاج دي بينشي، تلك الفتاة الجميلة بملامح قاسية، وعلى الرغم من أن نظرة الفتاة إلى الأمام، إلا أنها تبدو غير مبالية بالمشاهد.
معارض
وجدت اللوحة صدى كبيراً لدى الجمهور بصورة عامة، والنقاد ومؤرخي الفنون بشكل أكثر خصوصية، واشترى المتحف الوطني للفنون في العاصمة الأمريكية واشطنن اللوحة عام 1967، مقابل خمسة ملايين دولار أمريكي، وهو سعر قياسي في ذلك الوقت، غير أن أعمال دا فينشي بصورة عامة لا تقدر بثمن.