يقدم الرسام والمصور الإنجليزي وليم هوجرت «1697 1774»، أعمالاً وممارسات فنية تحمل رؤى نقدية وتصورات لعالم مختلف وواقع اجتماعي مغاير عن السائد، وعادت عليه لوحاته بثروة ضخمة، حيث اشتهر بالبراعة والمقدرة على أن تمتلئ اللوحة بالأفكار، وهو الأمر الذي ظل يجذب إليه محبي الرسم في مختلف أنحاء العالم، وفي بريطانيا بصفة خاصة، لكون معظم أعماله تتحدث عن تلك الدولة الأوروبية، وقد لقيت لوحاته شعبية كبيرة للمضامين الاجتماعية التي تحملها.
ولد هوجرت في منطقة بارثولوميو بالقرب من لندن، وكان والده ريتشارد هوجرت معلماً مدرسياً فقيراً، وقد أُرسل للتمهن في صغره للعمل لدى النقاش إيليس غامبل في حقول ليستر، حيث تعلّم نقش بطاقات تجارية ومنتجات مشابهة، أصبح هوجرت عضواً في نادي «الوردة والتاج»، مع بيتر تيليمانز، وجورج بيرتيو ومايكل دال، إضافة إلى عدد من الفنانين والخبراء الآخرين، وفي مرحلة من حياته، حبست السلطات والده بسبب تراكم الديون في سجن «فليت»، لمدة خمس سنوات بعد افتتاحه مقهى فاشل، لكن مسيرة هذا الفنان كانت عامرة بالإبداعات المتنوعة فاعتباراً من عام 1720، أصبح نقاشاً مستقلاً، حيث كان يقوم بنقش رموز على أذرع المعاطف، وفواتير محال، وصمم لوحات لبائعي الكتب، وفي عام 1757 عُيّن هوجرت رساماً للبلاط الملكي.
لوحة «الزواج الحديث» أو «الزواج على الطريقة الحديثة» هي ضمن سلسلة من ست لوحات رسمها هوجرت في الفترة ما بين عامي 1743 و1745، في محاولة منه إلى تسليط الضوء على سلبيات المجتمع الإنجليزي في القرن الثامن عشر والتشوهات التي طرأت عليه، إذ تُظهر هذه السلسلة، ومن ضمنها هذا اللوحة، العواقب الوخيمة للزيجات المدبرة أو ما يعرف ب«زواج المصلحة» أو زواج الصالونات سعياً وراء المال أو طلباً لمكانة اجتماعية، كما تنتقد أيضاً المحسوبية وحب المظاهر، وتعبر اللوحة عن الاتجاه الفكري لدى الفنان، في تناول الواقع والتقاط تفاصيله اليومية، فهو رسام ونقاش اشتهر بالحفر العميق داخل المجتمع الإنجليزي في الحقبة التي عاش فيها، راصدا المتغيرات وانتشار الكثير من العادات السيئة فيه، وله في ذلك المنحى الكثير من اللوحات الشهيرة مثل: «سيرة الفاسق»، و«سيرة فتاة الليل»، والتي أشارت إلى إمكانيات نقدية كبيرة لدى الفنان، وكذلك لديه سلسلة أعمال إبداعية شهيرة حملت عنوان: «أوقات اليوم الأربعة»، تستلهم تلك اللوحات موضوعاتها من التصوير الهزلي للحياة في شوارع لندن في تلك الآونة، والتقلبات التي تصاحب صيحات الموضة، وأخيراً الفجوات التي نشأت بين طبقة الأغنياء والفقراء.
وكثيراً ما أشار النقاد إلى لوحة «الزواج الحديث»، على أنها كانت خطبة لاذعة وساخرة ضد مجتمع انتشرت فيه الفوارق الاجتماعية، وسادت فيه العادات السيئة نتاج الثراء وصعود طبقة غنية عاشت حياة الملذات، وذلك الأمر يشير إلى موقع الفنان نفسه كحارس للقيم الإنسانية الحقيقية مقابل تلك المظاهر الزائفة، حيث عرف عنه اهتمامه منذ الصغر بحياة الشارع في العاصمة لندن، وكان كثيراً ما يسلي نفسه بمحاكاة الشخصيات التي يصادفها، وهي تجربة سكنت في ذهنه وشكلت لديه رؤى وأفكاراً تجاه المجتمع. وفي وقتها لم تلق اللوحة ذات النجاح الذي لقيته أعماله الأخرى، وعندما بيعت في عام 1751، كان المبلغ أقل بكثير مما كان يرجوه الرسام ويمني به النفس، ولكن بمرور الأيام والسنوات اكتسبت اللوحة شهرة كبيرة، بل وصارت ترمز لمحاربة الظواهر القيم الفاسدة التي كانت سائدة في ذلك العصر.
وصف
في مشهد اللوحة نرى مجموعة من الأشخاص أثناء عقد قران مدبر، حيث تجري ترتيبات زواج بين شخصيات معروفة في المجتمع الإنجليزي في لندن في ذلك الوقت، إذ يظهر إيرل سكوانفرفيلد، الذي أفلس تقريباً ويريد أن يستعيد أمجاده في التجارة عبر تزويج ابنه من بنت رجل ثري من تجار المدينة، ولكنه أيضا اشتهر بالبخل الشديد، فيما يظهر الرجل الذي قام بتدبير هذه الزيجة «المرابي»، وهو جالس على الطاولة في متصف الغرفة يفاوض في السعر، وهو أيضاً الرجل المسؤول عن استكمال بناء قصر إيرل سكوانفرفيلد والد الزوج.
وتتضمن اللوحة نافذة،تطل على قصر في طور التشييد، ويبدو أن هذا الزواج هو السبيل لاستكمال تشييده، فيما يظهر والد العريس إيرل سكوانفرفيلد المصاب بالنقرس، وهو يشير بفخر إلى لوحة شجرة عائلته؛ والتي تمتد جذورها إلى ويليام الفاتح ملك إنجلترا في الفترة «1066-1087م»، بينما يظهر الابن «العريس»، وهو ينظر إلى نفسه في المرأة دلالة على النرجسية، فيما تبدو العروس قلقة ومضطربة، وتقوم بتلميع خاتم الزواج في إشارة لعدم ارتياحها، ويعمل محامي العائلة سيلفر تونغ على تهدئتها، والواقع أن طريقة جلوس العروسين تدل على التنافر بينهما إذ يشيح كل واحد منهما بوجهه وجسده عن الآخر، وفي ركن الحجرة يقبع كلبان مقيدان إلى بعضهما بسلسلة في إشارة رمزية لوضع الشابين المقبلين على الزواج.
وفي اللوحة يرتدي الأشخاص الموجودون في العرس أزياء تنتمي إلى تلك الفترة الزمنية التي جرت فيها مراسم الزواج، وتكمن فرادة وبراعة الفنان في توظيف الألوان الساطعة والهادئة، والإضاءة بدرجاتها المختلفة من أجل إظهار تعبيرات الوجوه.
محاكمة
في هذه اللوحة يعقد الفنان محاكمة حية ضد فكرة ونظرة المجتمعات الغنية التقليدية تجاه الزواج، حيث كانت معظم الزيجات في ذلك الوقت مدبرة، في وقت كانت الطبقة البرجوازية تظن أنها تعيش حياة العفة والفضيلة، وفي مشهد هذه اللوحة تظهر مجموعة من الأغنياء في حفل الزواج وهم منغمسون في ملذاتهم وإقبالهم على الحياة بطريقة عنوانها العريض الترف والإسراف وكان الزواج المدبر منتشراً في ذلك الوقت، ولم تكن هناك علاقة حب تجمع بين الزوجين، حيث كانت الأسر الثرية تخشى أن يتورط أفرداها في زواج من أسر فقيرة أو ليست معروفة النسب، وكان التفاخر بالأنساب سمة في ذلك الوقت، وهو الأمر الذي عمل الفنان جاهداً على رصده وعكسه في هذا اللوحة الفنية مساهمة منه في الكشف عن تلك الممارسات الخاطئة وبالتالي محاربتها، لذلك يرى عدد من النقاد أن هذه اللوحة ضمن تلك السلسلة التي رسمها الفنان عن تلك الزيجات تعتبر درة لوحاته في هذا الخصوص، حيث نجحت في لفت النظر تجاه تلك الظاهرة، ولقيت اللوحة شهرة شعبية كبيرة مع الوقت، لكونها شاهدة على تلك المرحلة التاريخية.