تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » «وسام الفارس».. الفن يحتفي بالشجاعة

«وسام الفارس».. الفن يحتفي بالشجاعة

 

يعرض لنا الرسام الإنجليزي إدموند بلير لايتون، (1852ـ 1922)، في أعماله الفنية التقاليد العريقة والرؤى العميقة للمدرسة الرومانسية، وهو يفعل ذلك ببراعة كبيرة جعلته واحداً من رموز الفنون العالمية، وقد تخصص في رسم اللوحات التاريخية تحديداً، بكل عبقها وغموضها وسحرها الآسر، خاصة فترة القرون الوسطى، وكأن الفنان أراد أن يكتشف بطريقته الخاصة أغوار تلك المرحلة التاريخية المهمة، حيث البطولات وقصص النبلاء والفرسان بطريقة تجعل المشاهد يسافر معه في تفاصيل رحلة عامرة بالمتعة والجمال.

لايتون هو سليل أسرة عريقة في الإبداع، والده هو الفنان تشارلز بلير، الذي عرف بأعماله الشهيرة، وقد تلقى لايتون الابن تعليمه في مدرسة الكلية الجامعية، قبل أن ينتقل إلى المدرسة الأكاديمية الملكية، وتزوج من كاثرين ناش عام 1885، وكان يعرض رسوماته الفنية بشكل سنوي في الأكاديمية الملكية منذ عام 1878، وحتى سنة 1920، واشتهر في لوحاته بالاهتمام بأدق التفاصيل، وعكست أعماله، مشاهد رومانسية على مستوى عالٍ من الجودة، ولاقت إعجاباً واسعاً من الجمهور والنخب الفنية، وعلى الرغم من أنه عرض لوحاته لمدة تزيد على أربعين سنة في الأكاديمية الملكية، فإنه لم يكن أكاديمياً في مجال الرسم، لكن أثره في الفنون كان كبيراً عبر تلك الأعمال الخالدة التي تركها.

لوحة «وسام الفارس»، تعد من أبرز اللوحات التي رسمها لايتون خلال العقد الأول من القرن العشرين؛ بل وتعد أشهر الأعمال الفنية التي تناولت تقليداً متعلقاً بالفروسية، يعود أصله إلى القرون الوسطى، وفي ذلك الوقت كان لطبقة الفرسان مكانة خاصة في المجتمعات الأوروبية، وكانت قيمهم تسود بين الناس، حيث الشجاعة والبسالة والفداء، ولعل اللوحة في الأصل مرسومة بدافع الشوق والحنين إلى تلك الأيام التي ظلت تؤثر في خيال الأوروبيين حتى بعد انتهاء حقبتها بسنوات كثيرة.

وعلى الرغم من أن بعض النقاد قد أشاروا إلى أن الصورة ربما تكون مثالية وعاطفية أكثر من اللازم، لكنها مدهشة من حيث إنها تنقل المشاهد إلى العصور الخوالي، كما أنها تكشف عن البعد الرومانسي في أعمال الفنان الذي لعب دوراً مهماً في توعية الناس بأهمية مواضيع الرسم المرتبطة بالأزمنة القديمة، وظلت لوحاته تتميز بزخارفها الجميلة ومضامينها الشعبية.

«وسام الفارس».. الفن يحتفي بالشجاعة

*وصف
في هذه اللوحة يظهر عدد من الشخوص في صالة تبدو ملكية، وفي المشهد الرئيسي تبرز ملكة، إنجليزية على الأرجح، وهي ترتدي فستاناً أبيض مزيّناً بالذهب وتقف عند أسفل عرشها بطريقة معينة، شعرها أحمر ورأسها يعلوه تاج، وهي تحمل بيدها اليمنى السيف وتضعه على كتف الفارس تكريماً له بطريقة طقسية، بينما تقبض بيدها اليسرى على غمد السيف، ويظهر الفارس هو يرتدي سترة حمراء عليها علامة نسر أسود وهلال، وهي رموز للشجاعة والمنعة، و ينحني على أريكة جلدية بعد أن نحّى خوذته الحديدية جانباً، بينما يقف عند الباب في يمين اللوحة حشد صغير من الناس، يبدو أنهم من موظفي وعمال القصر يتابعون هذه المراسم، بينهم رجل عجوز وراهب وصبيّ يمسك بترس الفارس؛ ذلك الذي يستخدم عن الحروب أثناء المعارك.

وزع الفنان الألوان الساطعة من درجات الأحمر والأزرق، إضافة إلى إضاءة منخفضة بعض الشيء على جوانب اللوحة، لكنها في ذات الوقت تظهر تعبيرات وجوه الحشد قرب الباب، و اللوحة شديدة السطوع عند المنتصف من أجل أن يركز المشاهد بصورة أكبر على مشهد المراسم، وتكمن براعة الفنان في إظهار التفاصيل الصغيرة مثل الزركشة والزخرفة في فستان الملكة والنقوش الصغيرة التي تزينه، وكذلك لباس الحرب الذي يرتديه الفارس، خاصة ذلك الحزام الذهبي، والنقوش التي على الخوذة الملقية على الأرض إلى جانب الفارس، والزخرفة في النافذة في الأعلى، وكذلك أزياء وملابس الحشد على يمين اللوحة، وهي تفاصيل تضيف الحيوية والألق إلى العمل وتجعله حقيقياً ونابضاً بالحياة.

*طقس
اللوحة تعبر عم مشهد طقوسي، وهو المتعلق بتكريم أحد الأعضاء المرشحين لنيل وسام؛ إذ يقتنص الفنان ذلك المشهد الذي يتكرر كثيراً في واقع ذلك العصر، ويختاره نسبة لدلالته الكبيرة، فطبقة النبلاء والفرسان ظلت تهيمن على مشهد القرون الوسطى، وربما أول شيء يلتفت إليه المرء عندما تجول بخاطره تلك الفترة التاريخية لمشهد الفرسان وهم يصولون ويجولون، وخلدت العديد من الأعمال الشعرية والأدبية السردية لتلك الحقبة، وكانت المهمة الأساسية لتلك الطبقة هي حماية الدولة والملوك، وكانت لهم قيم ثقافية واجتماعية خاصة بهم، وطبقاً لتاريخ الفروسية في أوروبا، كان الشباب يُمنحون مرتبة الفروسيّة في سنّ الحادية والعشرين، وكانت مناسبات منح رتبة الفارس تأخذ شكلاً احتفالياً له تقاليد راسخة، حيث يترشح شاب تتوفر فيه المواصفات المطلوبة، ثم يطلب منه أن يقضي الليل في الصلاة في مكان معين يضع فيه عدته الحربية، وفي الصباح تقام بعض الطقوس الدينية من بينها خطبة للكاهن عن واجب الفارس في حماية الضعيف وتقويم الخطأ واحترام النساء.

ويجري ذلك الطقس بحضور الفرسان والأعيان والسيّدات، و يقوم الفارس بارتداء حلّته القتالية قطعة قطعة، قبل أن يجثو على ركبتيه لتلقّي وسام الفروسية، وفي الواقع نجد أن هذا الوسام يتميز بمعنى مجازي، فهو ليس أكثر من ضربة خفيفة بباطن السيف على الكتف يقوم بها ملك أو ملكة، تماماً كما هو واضح في اللوحة، وبعد أن يخلع على المرشّح لقب الفارس يصبح له مطلق الحرّية في أن يذهب حيثما شاء، باحثاً عن المغامرة وحاملاً معه سيفه ورمحه وترسه، والأهم من ذلك، يجب عليه أن يعبر عن تقاليد وقيم الفروسية.