تحمل الإبداعات الفنية التي قدمها الرسام الإسباني فرانسيسكو دي جويا «1746- 1828»، مواقف ورؤى إبداعية مختلفة، وتقاليد فنية رفيعة المستوى، فهو رسام عمل عبر أعماله الفنية على رصد الواقع في زمانه بما فيه من اضطرابات سياسية واجتماعية، وتتضمن لوحاته صوراً لطبقة النبلاء الإسبان وأحداث تاريخية شهيرة تناولها بعمق وتأمل شديدين، وقد ولد لأبوين من الفلاحين البسطاء، فعمل معهما في الحقل هو وإخوته كسائر الفلاحين الإسبان، ومع هذا فقد ظهرت مواهبه الفنية في وقت مبكر، فكان يرسم بالفحم المتبقي من فروع الأشجار المحترقة على الحوائط والأحجار.
تدرّب جويا على يد رسام سرقسطة خوسيه لوسان إي مارتينيس، في سن الرابعة عشرة، وقد ذكر جويا هذا في سيرة ذاتية قصيرة، حيث مكث معه لمدة أربع سنوات وظلت رسوماته متأثرة بأسلوب أستاذه حتى ذهب إلى روما، وفي العام 1778 قام رسام البلاط الملكي مِنجس بالسماح لجويا بأن يأتي للقصر الملكي، حيث بدأ دراسة لوحات الفنان الإسباني فيلاثكيث، وهنا، بدأت تتضح معالم فنان شهير حيث تم بعدها تعيينه كرسام للملك، وهذه هي أكثر المراتب المرموقة التي يمكن أن يحظى بها رسام في إسبانيا، ليصبح بعدها صاحب مكانة فنية مرموقة في العالم حتى حمل لقب «أبو الفن الحديث»، وأثّرت أعماله في الجيل الأخير من الفنانين خلال القرن ال 20، وخاصة بابلو بيكاسو، وبول سيزان، وفرانسيس بيكون، وإدوارد مانيه.
لوحة «عائلة كارلوس الرابع وأسرته»، تعد واحدة من أهم أعمال جويا، نسبة للعديد من التفاصيل التي تحملها، وهي عبارة عن صورة جماعية لكارلوس الرابع وأسرته، وهو ملك إسبانيا بين (1788 و 1808) وأتمها في 1801، (زيت على قماش)، بدأ غويا العمل على اللوحة في ربيع 1800، وتنتمي اللوحة إلى الفترة التي عمل بها جويا كرسام للبلاط الملكي في 1799، حيث لفتت أعماله شديدة الواقعية نظر الجميع، فكان أن نال إعجاب الأسرة الحاكمة، خاصة أن جويا قبيل انضمامه للقصر الملكي، كان قد اشتهر برسم مشاهد من الحياة اليومية، وتشييد صورة كاريكاتورية حول العديد من الأشخاص، فقد كان يحشد اللوحة برؤيته الفلسفية والفكرية والكثير من الرموز والإشارات التي تحتاج إلى تأويل وتفكيك من أجل الوصول إلى معانيها، وهو أمر لم يفارقه أو يتخلى عنه، وكان قد احتفظ بتلك الأسلوبية حتى عندما صار رساماً للبلاط، حتى أصيب بالصمم ودخل في حالة من الاكتئاب المزمن في الفترة بين 1820 و1823، حيث تقاعد في بلدته الصغيرة وأقام في منزله الذي أطلق عليه اسم «بيت الرجل الأصم».
وصف
في هذه اللوحة الجماعية للملك وأفراد أسرته، يلاحظ المشاهد تلك البراعة الشديدة للفنان في جعل المشهد حقيقياً، عبر التركيز على إظهار الوجوه ومشاعر الشخصيات، والاهتمام بالملابس، حيث يرى المشاهد الأزياء الفاخرة، المتلألئة بالمجوهرات والشعارات الملكية، واختار الفنان درجات لونية لامعة وبراقة، وتُعتبر اللوحة هي خُلاصة أعمال كثيرة قام بها غويا، وتُعد واحدة من أكثر اللوحات التي تناولت البلاط الملكي تعقيداً، حيث إن هنالك العديد من الأعمال الفنية لرسامين مختلفين تناولوا الملوك وأسرهم منها لوحة «عائلة فيليب الخامس»، للويس ميشيل فان لو عام 1743 و«الفتيات» وعائلة «فيليب الرابع»، لدييغو فيلاثكيث عام 1656، لكن لوحة جويا نالت القدر الأكبر من التناول والنقد، وكشفت عن قدرته في السيطرة على كل التفاصيل، وإتقانه لتوظيف الضوء والظلال وتوزيع الألوان وضربات الفرشاة وتعريفه الدقيق للشخصيات، وقد رسمت هذه اللوحة البديعة بطلب من الملك نفسه، وقيل إنها من الأعمال النادرة لكونها نجحت في تشكيل صورة نابضة بالحياة، بحيث تبدو وكأنها حقيقية.
تفاصيل
في هذه اللوحة يطل المشاهد على خبايا نفوس الأسرة الملكة، فقد نجح الفنان في إظهار مشاعر متناقضة من الغضب والعجرفة والسعادة في كل فرد من أفراد العائلة المالكة، وهو الأمر الذي أكد براعة وعلوّ مكانة جويا، فهذا العمل يجعل المشاهد في حالة تركيز شديد على ما تحمله العيون والوجوه من تعبيرات، فعلى يسار مشهد اللوحة يبرز رجل متعجرف يرتدي سترة زرقاء، وهو الابن البكر للملك، والذي سيصبح طاغية في وقت لاحق، إنه فرديناند السابع، وإلى جواره امرأة ستصبح زوجته في وقت لاحق، فيما يتوسط المشهد الملك كارلوس الرابع، والملكة ماري لويز، وأشار النقاد إلى أن هيئة الملكة بتلك الصورة الواضحة في قلب اللوحة يحمل إشارة إلى أنها مركز القوة، واستعان الفنان برسم خلفية مظلمة، للتدليل على الغموض الذي يحيط بالأسرة الحاكمة، فيما تظهر في اللوحة العديد من الشخصيات الأخرى مثل بنات الملك وأزواجهن وأطفالهم.
ويبدو أن الأسرة المالكة لم ترض تماماً عن هذه اللوحة، برغم إشادة الملك بها، بوصفها قد رصدت مشهداً يظهر حب الملك لأسرته وعائلته، ولكن النقاد تفنّنوا في إظهار خبايا اللوحة المحتشدة بالرموز، فقد حملت نقداً مبطناً للملكة عندما أظهرتها اللوحة بصورة تبدو فيها متعجرفة وغير جميلة، وأشار النقاد إلى أن جويا أراد أن يظهر قبح نفوس بعض أفراد الأسرة المالك مثل الملكة ماري لويز، وفرديناند السابع ذلك الطاغية الذي اشتهر بالعنف والفتك بالخصوم، وعلى الرغم من أن جويا كان يتلقى من خلال عمله كرسام للبلاط الملكي مرتباً كبيراً، غير أن ذلك الأمر لم يجعله يتخلى عن مبادئه ومواقفه الفكرية، فقد كان ينتقد فساد الأسرة المالكة ويظهر ضعف علاقتها بالمعتقدات الدينية، وقد اعتبرت هذه اللوحة بمثابة نقد كبير للبلاط، فقد عمد على إظهار أفراده في اللوحة بصورة كاريكاتورية لا تخلو من السخرية.
تمسك جويا في اللوحة بروحه النقدية التي تسيطر على رسوماته، ولئن كان هذا الفنان قد اشتهر برسم بعض الناس بصورة وحشية تظهر عدم إنسانيتهم، فإنه في هذه اللوحة قدم نقداً مشوباً بالتهكم تجاه بعض أفراد الطبقة الحاكمة، بل إن شجاعة جويا جعلته ينتقد بصورة لاذعة محاكم التفتيش وانعدام العدل في مجتمعه، وكانت فكرة سطوة الملكية والكنيسة واضحة جداً في أعماله.
معارض
تنتمي اللوحة إلى مجموعة خاصة من لوحات القصر الملكي في مدريد، والآن أصبحت جزءاً من متحف برادو الذي تأسس حديثاً عام 1824 من قِبل الملك فرديناند السابع الذي يظهر في الصورة.