لم يسبق أن برع رسام أمريكي في رسم البورتريهات خاصة المناظر الريفية كما هو حال ويليام سيدني ماونت (1807 – 1868) وكان لنشأته في قرية سيتوكيت بمدينة بروك هافن التابعة لمقاطعة سوفولك، نيويورك، دورها في ترسيخ موهبته الفنية، ومن خلالها تعرف إلى مناظر الريف خاصة وأن سيتوكيت تأسست كمجتمع زراعي في منتصف القرن السابع عشر، وهنا، وجد سيدني نفسه قادراً على تمعن المشاهد الريفية التي كانت أكثر جاذبية للجمهور الأمريكي.
رأى الناس في أعمال ويليام سيدني، تلك العلاقة الدقيقة في رسم المشهد الريفي الذي ظهر واقعياً وآسراً، وهذا ساعده على اكتساب سمعة طيبة كرسام أصيل. كان سيدني فخوراً بهويته الأمريكية فرفض الكثير من العروض للدراسة في الخارج.
في نيويورك تعرف سيدني إلى الرسام المخضرم بنجامين ويست (1738-1820) الشهير بلوحاته التاريخية، ومن خلاله فهم كيفية رسم اللوحات التاريخية بما فيها من تفاصيل وتقنيات الفن الكلاسيكي، وفي هذه الفترة أيضاً أبدع الكثير من لوحاته التاريخية الخاصة، وقد التحق سيدني بالأكاديمية الوطنية للتصميم، فنسخ الكثير من الأعمال الفنية والنقوش الأوروبية. كانت الفترة الحاسمة في مشواره الفني في عام 1830، وكان بعمر 27 عاماً، حين رسم أول لوحة ريفية بعنوان (رقصة ريفية بعد ركوب الزلاجة) وقوبلت بتعليقات حماسية من النقاد بعد عرضها في الأكاديمية الوطنية للتصميم. في عام 1848 وبعد وفاة والدته وأيضاً شقيقه هنري الذي تعلم على يديه رسم اللافتات، صار سيدني يسافر إلى جبال كاتسكيل بنيويورك، ويرسم مناظر طبيعية مع توماس كول 1848. بعد بداية الحرب الأهلية الأمريكية عام 1861، انجذب الناس إلى صور الأطفال في الريف التي رسمها ويليام، خاصة وأنها كانت تذكرهم بذلك الزمان الذي عاشوه في أحضان الفطرة والنقاء والبراءة.
من ضمن أعماله الشهيرة وهي كثيرة هناك لوحة «مصنع عصير التفاح» التي رسمها في عام 1840، وترجح تقديرات أخرى أنه أنجزها في 1841.
ضوء
يمكن اعتبار لوحة «مصنع عصير التفاح» عملاً فنياً بخلفية سياسية، وأكثر من ذلك لوحة ذات طبيعة كاريكاتورية سياسية ساخرة ولاذعة، فقد كان ماونت، وهو ديمقراطي محافظ، معارضاً بشدة لرئاسة أندرو جاكسون (1767 – 1845) الرئيس السابع للولايات المتحدة بين (1829 إلى 1837) وأيضاً خليفته مارتن فان بورين (1782 – 1862) الذي شغل منصب الرئيس الثامن لأمريكا بين (1833و 1837)، أما ويليام هنري هاريسون (1773 – 1841) الرئيس التاسع للولايات المتحدة فقد كان الخصم السياسي العنيد لفان بورين والذي غالباً ما استخدم الصور الريفية لانتقاد الأول. كان حزب هاريسون اليميني مرتبطاً بشكل شائع بصانعي عصير التفاح.
لقد كلف سيدني برسم هذه اللوحة بالذات من أجل المساعدة في حملة سياسية، رسم سيدني اللوحة بتكليف من أحد رجال الأعمال من نيويورك من حزب اليمين واسمه تشارلز أوغسطس ديفيس مقابل (مقابل 250 دولاراً ) إما لإحياء ذكرى الانتصار المفاجئ للحزب اليميني على الديمقراطيين، أو لمجرد دعم حملة اليمينيين.
هذا السباق المثير للجدل حرض سيدني على رسم اللوحة تشجيعاً لهاريسون ضد فان بورين، حيث تم تسويق هاريسون على أنه «رجل الشعب» الذي يفضل شرب عصير التفاح، والعيش في كوخ خشبي بدلاً من البيت الأبيض، على عكس خصمه الشخص الثري المداهن الذي يتباهى في الصالونات، ولا يزال مجرد شخص ثري يجدف في السياسة الحديثة.
اللوحة
بالنظر إلى اللوحة نفسها، كانت مطحنة عصير التفاح، عبارة عن مصنع تشغيل حقيقي في سيتوكيت، نيويورك، وظلت قائمة حتى أوائل القرن العشرين. هناك معانٍ مختلفة تنسب إلى بعض الأشخاص وتفاصيل أخرى في اللوحة، ولكنها لا تظهر فيها، على سبيل المثال، لم يرسم سيدني أي عمّال في المشهد من ذوي البشرة السمراء، على الرغم من أنه من شبه المؤكد أنهم كانوا قد قاموا بالفعل بتشغيل الآلات المستخدمة في عملية صنع عصير التفاح. قد تمثل الخنازير النائمة الديمقراطيين الكسالى، في حين أن الرجل في الخلفية اليمنى قد يكون الرسام سيدني نفسه، وهو ذلك الرجل «الجالس على السياج»، وغير قادر على اختيار جانب.
هناك شخصيات أخرى يفترض تحديد هويتها في الرسم، كما هو حال الشابة فاني رايت بجانب برميل عصير التفاح والتي عملت بجد من أجل حقوق المرأة. أما الرجل العجوز في الخلف فهو المصرفي نيكولاس بيدل، من المحتمل أن تكون هذه الهويات تخمينية، ولكن هذا هو الحال في بعض الأحيان عند تفسير قطعة فنية. يوجد أيضاً تاريخان للصورة ( 1840 على برميل عصير التفاح في المقدمة) و (1841 بجانب توقيع سيدني) ومن المتوقع أن تاريخ 1840 يشير إلى الانتخابات.
ومن يدقق في اللوحة يلحظ الأسلوب اللافت الذي طبع المشهد الريفي عن الرسام سيدني، وهي بالضرورة مشهد يعكس تراث المنطقة التي أحبها الفنان وكان أميناً في إبراز هويته الفنية من خلالها، فاللوحة تصور مشهداً طبيعياً حرص الفنان على إنجازه متحرراً من سطوة المعايير الكلاسيكية التي طبعت لوحاته التاريخية، وهو هنا، يبدو أميناً في اختيار شخصيات العمل خاصة من الطبقة الاجتماعية التي أحبها وعاش بينها، فأظهرها كما هي بألوانها الترابية، سواء في الزي أو المنظور العام للوحة الذي بدا حيوياً وضاجّاً بالحركة والدينامية المفعمة بالحياة اليومية.
حملة
كان تشارلز ديفيس قد اشترى سابقاً لوحة «اصطياد الأرانب» التي رسمها ويليام سيدني عام 1839، وكان سعيداً بمدى شعبية اللوحة عند عرضها. ربما هذا ما دفعه إلى إعطاء سيدني مهمة رسم لوحة «مصنع عصير التفاح»، كان موضوع حملة هاريسون الرئاسية قد ترافق في الواقع بحملة دعائية خصصت لها أحد أشهر الشعارات في التاريخ لحملة رئاسية من حيث الأغاني والهدايا التذكارية والمواد الدعائية الأخرى، وربما أهمها أن هناك ممثلين كانوا يوزعون زجاجات عصير التفاح على شكل ألواح خشبية.