تخطى إلى المحتوى
الرئيسية » هل الذكاء الاصطناعي ينافس الخبرة البشرية في الفن؟

هل الذكاء الاصطناعي ينافس الخبرة البشرية في الفن؟

هل الذكاء الاصطناعي ينافس الخبرة البشرية في الفن؟

 

يقام في إحدى المدن الإنكليزية الصغيرة معرضٌ يؤكّد القائمون عليه أنّهم تمكنوا عبر استخدام الذكاء الاصطناعي من الإجابة عن سؤالٍ شغل عقول خبراء الفنّ مدةً طويلة. يتعلق الأمر بتحديد هوية الرسّام الذي رسم اللوحة المعروفة في الأوساط الفنية بـ”De Brecy Tondo/ دي بريسي توندو”، والتي تعود إلى عصر النهضة الأوروبية. وفي حين يؤكّد الذكاء الاصطناعي أنّ اللوحة تعود إلى الفنان الإيطالي رفائيل، يقول خبراء إنّ الأسس المتاحة غير كافية لتصديق توقعات “الروبوت”.

على مدى أربعين عامًا، ظلت هذه اللوحة أحد أكبر الألغاز الفنية، لكنها تذكّر بقوةٍ بلوحةٍ الرسّام الإيطالي الشهير رفائيل، المسمّاة “Madonna Sistina/ عذراء سيستينا”، والتي تعد واحدةً من أعظم تحف فنّ الرسم على مدى التاريخ. اللوحة محفوظة حاليًا في متحف الفنون القديمة في مدينة دريسدن الألمانية، وأنجزها الفنان بناءً على طلبٍ من البابا يوليوس الثاني لصالح كنيسة دير سانت سيستو. من المثير أنّ الاسم الذي تحمله اللوحة الغامضة، موضوع النقاش، أي “De Brecy Tondo/ دي بريسي توندو” هو اسم المؤسسة مالكة اللوحة، أي مؤسسة (De Brecy Trust)، التي أسسها رجل الأعمال البريطاني وجامع التحف الفنية جورج ليستر. حتى اليوم، كان الفشل نصيب جميع المحاولات التي هدفت إلى تثبيت عائدية اللوحة، أو التي حاولت أن تثبت بشكلٍ لا لبس فيه أنّها رسمت بريشة رفائيل. أول الأمر، كانت ملكية اللوحة تعود إلى السير ريتشارد أوين، الذي اقتناها في عام 1981 في مزادٍ علني لبيع مجموعة فنية تمتلكها إحدى ورثة السير أوين الجدّ. في المزاد، أشير إلى اللوحة بعبارةٍ متواضعة تقول: “رسمت اللوحة وفق أفكار رفائيل… مريم العذراء والطفل” (الصورة مرسومة بزيت على قماشٍ، ضمن إطارٍ دائري بقطر 95 سم).

بعد تزايد عدد الخبراء الذين لم يتمكنوا من التوصل إلى إجابة موحدة بشأن تحديد شخصية الرسّام الذي رسمها، تراجعت حدّة الجدل حولها. ومع ذلك، بقيت موضوعًا يثير الفضول ضمن دائرة ضيقةٍ من الخبراء المهتمين بفنّ رفائيل.

تغير كلّ شيء مع بداية العام الحالي. فقد أعلن باحثون من جامعة برادفورد أنّهم تمكنوا، وبعد أبحاثٍ مكثفة أجروها لتحليل اللوحة بمساعدة الذكاء الاصطناعي الذي يتعرّف على الوجوه، من التوصل إلى إثبات عائدية اللوحة.
بحسب كلمات مدير المشروع، البروفيسور في الحسابات البصرية، حسن عُقيل/ Hassan Ugail، الذي صمّم نموذج الذكاء الاصطناعي القادر على التعرف على الوجوه، فإنّ وجه مريم العذراء في لوحة Tondo يتطابق بنسبة 98% مع وجه مريم العذراء في لوحة رفائيل “Madonna Sistina”، غير أنّ تطابق وجه الطفل قدّر بـ 86%.

تحدث البروفيسور عقيل، عالم الرياضيات، وعالم الكمبيوتر، من جزر المالديف، وهو أستاذ الحوسبة المرئية في كلية الهندسة والمعلوماتية في جامعة برادفورد، إلى الإعلام بشأن نتائج البحث، ونوّه إلى أن نموذجه يركّز على “الأبعاد التي لا تستطيع العين البشرية رؤيتها، وشدّد على أنّ عدد الخبراء والاختصاصيين المحترفين العارفين بمواصفات اللوحة، والذين يستخدمون، في الوقت نفسه، إنجازات العلم والتقنية الجديدة ضئيلٌ للغاية”. وتقتبس صحيفة “واشنطن بوست” من تصريحات عقيل: “كان درسًا مفيدًا أن نعرف عالم الفنّ، وأن ندرك مدى تخلف الخبراء في مجال استخدام البراهين العلمية”.
لم يكن البروفيسور عُقيل وحده في هذا الموقف، بل وقف زملاؤه إلى جانبه داعين إلى استخدام الذكاء الاصطناعي عند تقرير صحة الأعمال الفنية وتحديد شخصية مؤلفيها. من ناحيةٍ أخرى، أشارت كارينا بوبوفيتش، التي تترأس شركة Art Recognition المتخصصة في هذا المجال، إلى مزايا مثل هذه التقنيات وعيوب الاعتماد على العنصر “البشري”. أضافت بوبوفيتش: “إنّ الاعتماد على الخبرة البشرية وحدها يحمل مخاطر محتملة مرتبطة بالأخطاء المحتملة التي يرتكبها الإنسان، أو ربما حتى تحيّزه”. كما أشارت بوبوفيتش إلى أنّ شركتها أثبتت قوتها في التعرف على المنتجات الفنية المزيفة التي قام بتزييفها فنانون بارعون، من خلال عمل الشركة على إعادة إنتاج أعمال ما لا يقلّ عن 50 فنانًا مشهورًا.

ومع ذلك، يختلف الخبراء البشريون مع وجهة النظر هذه، ويدافعون بأنّ الخبراء المهنيين لا يعتمدون عند قيامهم بتحديد أصالة العمل الفني على أعينهم وحدها، بل وأيضًا على تجاربهم الشخصية، وعلى حقائق تاريخية واضحة يمكن التحقق من صحتها تاريخيًا. ويقول هؤلاء الخبراء: “عندما يكون الخبير منغمسًا بعمق في عمل فنانٍ ما، فإنّه يقرأ عنه كلّ شيء، ويزور المتاحف حول العالم لزيارة المعارض التي تعرض النسخ الأصلية من أعماله، وربما يكون قد اقتنى بعضًا من هذه الأعمال، أو قام بالمتاجرة بها”.
من جانبه، يقول الخبير الأميركي، ريتشارد بولسكي، صاحب شركة تقييم لوحات الفنانين الأميركيين في القرن العشرين: “لا أعتقد أن مثل هذه الأمور يمكن تعليمها”.

أمّا بخصوص اللوحة التي أثارت كلّ هذه الجلبة والجدل، فيقول أحد أشهر الخبراء في أعمال رفائيل، وهو بروفيسور تاريخ الفنّ في جامعة دريسدن، رودولف هيلّر، مستندًا إلى تجربته العميقة، إنّه لا يدعم ما ذهب إليه الذكاء الاصطناعي “من شبه المستحيل أن يعمد الفنان العظيم إلى تقليد عملٍ سبق أن أنجزه… الفنان يفضّل تغيير موضوع لوحاته”. تضيف زميلته باتريشيا إيميسون، من جامعة نيو هامشير: استنادًا إلى ما نعرفه اليوم عن رفائيل، فإنّه كان ليعتبر تقليده أعماله نفسها عملًا “يحطّ من كرامته”.

تقول صحيفة “واشنطن بوست”: “سواء أراد الخبراء البشر أم لا، فإنّ الذكاء الاصطناعي يقتحم عالم الخبرة في اختصاصاتٍ ضيقة، بما في ذلك مجال تحديد أصالة الأعمال الفنية، وقد تمكّن بالفعل من حجز موقعٍ ثابت هناك”. يتفق مؤيدو استخدام الذكاء الاصطناعي ومعارضوه على أنّه سيلعب دورًا مهمًا، ليس فقط في سوق الفنّ، حيث يمكن أن تظهر لوحة جديدة غير معروفة لفنانٍ مشهور، قد تؤثر بقوة على الأسعار. يمكن أن تلعب لوحات الفنان “الجديدة” دورًا في تغيير فهم الناس العاديين، وكذلك فهم الخبراء المتخصصين في إبداع الفنان. وبعد كلّ شيءٍ، يبدو، حتى اليوم، أنّ إماطة اللثام عن سرّ لوحة “Tondo” بعيدة المنال.