في عام 1932 عقد مؤتمر الموسيقى العربية الأول في القاهرة تحت رعاية ملك مصر آنذاك الملك فؤاد. كان الهدف من المؤتمر الذي دعا إليه الفنان والعازف الموسيقي محمد أحمد الحفني، الحفاظ على الإرث الموسيقي والغنائي، وكانت هذه أولى المحاولات الجدية لإنشاء قاعدة علمية للموسيقى العربية. حصل ذلك بعد وفاة كبار أعلام الموسيقى العربية يوسف المنيلاوي في عام 1911، ثم سيد درويش في عام 1923. وتناول المؤتمر الذي اعتبر أهم الأحداث في بداية القرن الـ20، وأكثر المؤتمرات الموسيقية تأثيراً في القرن، الموسيقى العربية وعلاقتها بالموسيقى الغربية والمقامات والإيقاع، مع متابعة للتطوير الموسيقي الذي ازدهر في البلاد مع عبده الحامولي وعائلة الشوا، وأيضاً مع سيد درويش. اليوم، بعد أكثر من 90 عاماً على انعقاد هذا المؤتمر التأسيسي الذي جمع رؤى متنوعة من الشرق والغرب، يعود الباحثون في الشأن الموسيقي إليه ليتناولوا ما جاء فيه. وها هي ذي “مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية” (آمار) تعود في الزمن إلى موعد انعقاد المؤتمر، من خلال ندوة وجلسة سمع في متحف سرسق في بيروت حملت عنوان “الأثر العربي والعالمي لتسجيلات مؤتمر القاهرة” وقدمها عالم الأنثروبولوجيا وموسيقى الشعوب المتخصص في تاريخ الموسيقى في اليمن وشبه الجزيرة العربية الفرنسي جان لامبير. وتناول فيها ما يمكن استنتاجه من تسجيلات مؤتمر القاهرة عن موسيقى الماضي والدروس التي تقدمها للحاضر والمستقبل، وما تحملها من معان للعرب والعالم.
إرث للأجيال المقبلة
تضمن مؤتمر الموسيقى العربية الأول في القاهرة محاضرات عن طرق تدريس الموسيقى وتاريخ الموسيقى. وركز الحاضرون فيه، من متخصصين في المجال الغربي والشرقي وموسيقيين عرب، من أمثال محمد عبدالوهاب وسامي الشوا وأحمد شوقي، ومشاركين من الدول الغربية، على اختيار الأعمال الموسيقية التي يجب الحفاظ عليها كإرث للأجيال المقبلة. توزع العمل في المؤتمر على سبع لجان تناولت المقامات والإيقاعات والتأليف الموسيقي والآلات وتسجيل الموسيقى من بلدان مختلفة والتعليم الموسيقي وتاريخ الموسيقى والمخطوطات القديمة والسلم الموسيقي.
كانت الموسيقى في ثلاثينيات القرن الماضي عموماً في مصر تحقق تقدماً بارزاً، مما يفسر تلك المشاركة الواسعة في المؤتمر والنجاح الذي حققه في مساعيه كحدث موسيقي بهذه الضخامة. علماً أن الهدف منه لم يكن العمل على حل المشكلات الموسيقية في العالم العربي فحسب، إنما مناقشة مختلف أشكال الموسيقى العربية وإنشاء برنامج تعليمي مشترك يمكن تطبيقه في مدارس الدول العربية. وفق ما أوضحه الباحث في أنثروبولوجيا الفنون وعضو الهيئة الإدارية في مؤسسة “آمار” أكرم الريس في حديثه مع “اندبندنت عربية”، فـ”مؤتمر القاهرة لعام 1932 يعد الأهم في تلك المرحلة، خصوصاً أنه جمع في الوقت نفسه عدداً كبيراً من الموسيقيين من دول عدة، بوجود باحثين في الموسيقى من بلادنا ومن الدول الأوروبية. لذلك يبقى ركيزة أساسية وحجر زاوية لا بد من العودة إليه كمرجع”.
في الجدل الموسيقي
مع بداية مرحلة الانتداب كانت هناك مرحلة انفتاح واضحة في المجال الموسيقى، إلا أنها ترافقت مع جدال وتعدد وجهات النظر، ما بين المحافظين المخلصين للتقاليد وللموسيقى، الذين رفضوا إدخال العناصر الأوروبية من جهة، والإصلاحيين الذين أرادوا استخدام أدوات الموسيقى الغربية، مع رغبتهم في التكيف مع السينما والإذاعة. واللافت أن هذا الجدل لا يزال قائماً حتى اليوم.
وبحسب ما أشار إليه الريس، شهد عام 1932 انطلاقة مهمة في مجال السينما، مع تحديث للموسيقى والأوركسترا واستخدام للآلات الغربية. لذلك، كان توقيت مؤتمر القاهرة الأول مفصلياً، خصوصاً مع انطلاقة السينما الغنائية والانفتاح على الموسيقى الأوروبية، ودخول الأغنية إلى الإذاعة. أتى المؤتمر آنذاك ليجمع الموسيقيين والملحنين والباحثين في الشأن الموسيقي بحضور لجان علمية، وفي الوقت نفسه اتخذ موقفاً جدياً من التحولات الحاصلة، لكن في الوقت نفسه لم يحصل اتفاق في ظل الجدل الحاصل ووجهتي النظر ما بين الراغبين بالحفاظ على الموسيقى الشرقية بعيداً من أي عناصر أوروبية، وأولئك الداعين إلى إدخالها فيها، وقد أرادوا استخدام أدوات الموسيقى الغربية، بشكل خاص للتكيف مع ما حصل من تطور في السينما والإذاعة. فكانت هناك انتقادات لتأثير الموسيقى الغربية والاعتماد على الثقافة الأجنبية. وكانت معاهد الموسيقى قد بدأت تستخدم الآلات الغربية في التعليم إلى جانب الآلات التقليدية الشرقية.
هذا فيما حاول موسيقيون كثر الحفاظ على خصائص الموسيقى العربية وحمايتها من التأثير الغربي. ويقول الريس: “يعتبر الحفاظ على الإرث الموسيقي مسألة مستمرة. من واجبنا الحفاظ عليه للعودة إلى الجذور، واكتشافها بأفضل شكل ممكن، والاستفادة منها. لذلك أتت هذه الندوة لتمد الجسور ما بين الفئات العمرية المختلفة، ليتسنى لها الاطلاع على هذا الإرث الموسيقي. وهذا ما يشكل تقاطعاً مع نشاط المؤسسة التي كان لا بد لها من تسليط الضوء على تلك المرحلة والحصول على تسجيلاتها للتذكير بنوع قيم من الموسيقى. وقد تناولت تسجيلات من الأسطوانات الـ150 التي سجلتها شركة (غراموفون) في المؤتمر، وهي تسجيلات من مصر والعراق وتونس والجزائر والمغرب، إذ لم تكشف كل أسرار هذه التسجيلات بعد أن نشرتها المكتبة الوطنية الفرنسية في عام 2015. لذلك تعمل مؤسسة (آمار) على البحث في هذه المادة كدرس من الماضي يمكن الاستفادة منه للحاضر والمستقبل”.