أحمد مصطفى*
يلعب الفن دوراً مهما في ثقافة الشعوب والأمم، ويعد تاريخه مؤشراً مهما على صعود الحضارات وانهيارها. ويتباين تأثير الفنون المختلفة ودلالتها التاريخية باختلاف أشكال الإبداع، لكنها في مجملها عصب التكوين الثقافي المجتمعي. لذا كانت المقولة الشهيرة «الفن مرآة الشعوب».
وما الفن إلا محصلة الإبداع الجمعي للموهوبين في جماعة ما، في ظل أوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية معينة. وتبرز بعض أنواع الفنون في فترات ما، وتخفت أخرى، لكنها لا تختفي مهما تراجعت. ففن النحت والرسم والفنون التشكيلية، بشكل عام، التي كانت سائدة قبل قرون، وحفظت لنا تاريخياً بشرياً موازياً للتاريخ المروي والسياسي، قد تتراجع أمام فنون «سريعة»، وترفيهية لكنها تظل موجودة.
لا يعني القول إن الفن مرآة الشعوب، أن مختلف أشكال الفنون تعكس الواقع الفعلي بحذافيره، حتى وإن كانت اتجاهات فنية ما توصف بأنها «واقعية»، كما في السينما، وغيرها. لأن الفن بطبيعته متجاوز للواقع، تخيلاً واستشرافاً ومجازاً.. إلخ. لكنه أيضاً يعتمد على ما يعايشه الفنان في بيئته المحيطة في المكان والزمان بكل تفاصيلها.
وحين تنظر إلى التماثيل والرسوم التي تعج بها ميادين وكنائس روما، وتعود إلى عصر الإمبراطورية الرومانية، ربما تخلص إلى أن ذلك العصر الذي أبدع فيه فنانوها كان واقعه قمة التقدم والرقي، في مكانه وزمانه. لكن تلك ليست بالضرورة الحقيقة التاريخية المحضة، والمدققة. فأحياناً يكون الفن الراقي طموحاً لما هو أفضل من الواقع، وتعبيراً عن التطلع الإنساني لتجاوز الواقع إلى ما هو أفضل، وأجمل.
ذلك، بمناسبة الجدل الدائر، بشعبوية فجّة أحياناً وبإسقاط سياسي ودعائي هائل، حول دور الفن والفنانين في ما يجري بمنطقتنا الآن. ويعود ذلك في الواقع إلى ما قبل اندلاع الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين، لكنه أصبح موضوعاً ساخناً أكثر الآن.
ويدافع الفنانون عن أنفسهم بأن دورهم ليس «النضال» المباشر، ولا حتى بالشعارات، كما يفعل المتظاهرون، تشجيعاً وتعبيراً عن الغضب. ويرى البعض أن فنهم له دور «ترفيهي» يجب ألا يتوقف حتى في ظل معارك الحروب والقتل والدمار، واشتعال النيران. وهناك من يرى أن الفن له دور في أي صراع، وأن الريشة مثل البندقية، والقلم مثل السيف، والأغنية مثل نشيد الجنود على الجبهات.
ذلك جدل لم يبدأ اليوم، ولا قبل عقود، وإنما يمتد إلى قرون ربما منذ أبدع الإنسان فناً في مسيرة حياته على كوكب الأرض. ومن بعض الفنون تطورت حياة البشر، ومن بعض خيال الفنانين استقى قادة عظماء تفكيرهم في طريق للمستقبل، ومن روايات الخيال العلمي ما حفز المخترعين والعلماء على الاكتشاف والابتكار.
في الوقت نفسه، كانت هناك فنون «تريح» الجماعات المتعبة، والتي تعاني في زمانها ومكانها، حتى وإن وصف البعض بعد ذلك دورها بالسلبي الذي ساهم في التراجع تحت راية التسلية.
نعم، الفن ليس بعيداً عن حياة وأوضاع الشعوب، بل والإنسانية جمعاء، لكنه لا يخضع إلى «خطة خمسية» لإنتاج رسم وشعر وموسيقى ودراما «تخدم أهداف المرحلة». ولا هو أيضاً، كما يروّج البعض، منذ زمن «أحد أدوات العدو لتخدير الشعب وإلهائه». الفن في النهاية إبداع، فيه قدر كبير من الموهبة، وليس الدراسة المكتسبة فقط.
أما موقف الفنان المبدع من القضايا المعاصرة، في زمنه ومكانه ومحيطه الإنساني، فذلك أمر آخر. ففي هذه الحالة ما الفنان إلا بشر مثلنا يتخذ مواقف مؤيدة ومعارضة، متحمسة ومتخاذلة.. إلخ. وليس هذا بحكم على الفن نفسه.