محمد الحداد
في الموسم الرابع من برنامج “محبوب العرب/ آراب آيدول” للمواهب الغنائية، غنّى المتسابق رقم (13) عبدالله الخليفي، أغنية “كلمة ولو جبر خاطر”. بعد أن انتهى منها، سألته الفنانة أحلام عضو لجنة التحكيم: “من أين أنت؟”، أجاب: “أنا من اليمن”، فردت عليه باستغراب: “من اليمن وغنيت أغنية سعودية؟!”، فرد عليها بأنها أغنية يمنية للفنان محمد سعد عبدالله.
تتواصل سرقات الموروث الموسيقي اليمني من قبل فنانين خليجيين، وتعمد عدم الإشارة الصريحة من قبل الفنانين أو الشركات المنتجة للفنّان الأصلي، أو حتى الإشارة إلى أنه تراث يمني، دون أي تحرك من الجهات المعنية، في مخالفة للقوانين المحلية والدولية ذات الصلة التي وقّعت عليها أغلب دول العالم الأعضاء في منظمة “الويبو” الدولية لحماية حقوق المؤلف والملكية الفكرية.
في هذا التحقيق، نكشف سرقات أغانٍ كاملة وألحان كاملة، وأخرى جرى عليها إضافة بعض الآلات الموسيقية الحديثة، لإضفاء تغيير في لحن الأغنية الأصلية، وفي هذه الجزئية عرضنا بعض الأعمال المسروقة على خبراء لمقارنتها مع الأعمال الأصلية، وأكّدوا لنا ثبوت السرقة، إضافة إلى ذلك يتم نسب كلمات الأغنية أو لحنها لكاتب أو فنان آخر أو تجاهل نسبها للموروث اليمني، في تضليل للمستمع والمشاهد الخليجي والعربي، الذي قد يذهب في اعتقاده إلى أنها موروث فني للدولة التي ينتمي لها الفنان الذي قام بتأديتها؛ ويجري تداولها وإشاعتها في المواقع الخاصة بالموسيقى والفيديو على الإنترنت على هذا الأساس، مع الأخذ بعين الاعتبار الفرق الشاسع في الإمكانيات الإعلامية التي تمتلكها بعض الدول للترويج وإبراز تلك الأعمال بعد الاستيلاء عليها؛ مقارنة باليمن، التي تفتقر إلى آلية لحماية وحفظ وتوثيق وترويج تراثها.
تعدد الأساليب
في الحلقة الـ24 من برنامج (فنان في ذاكرتك) على قناة SBC، الذي يقدمه المذيع السعودي داؤود الشريان، قال الفنان السعودي، محمد عمر، إنه يعمل على أغنية وصفها بـ”الشعبية”، وأضاف أن الأغنية عَرَّفت به عند كثير من الناس، فطلب منه المذيع الشريان أن يغنيها، ليتضح أنها أغنية “خطر غصن القنا” المعروفة بكلماتها للشاعر اليمني مطهر الإرياني، عن قصة “الدودحية” التي حدثت في ثلاثينيات القرن العشرين، ولحّنها وغنّاها الفنان اليمني علي الآنسي. واكتفى الفنان السعودي بالقول بأنها “شعبية”، ولم يقل إنها تراث يمني؛ ما يجعل غير العارفين بها يعتقدون بأنها تراث سعودي.
وفي سياق متصل، في مهرجان البحرين الغنائي الذي يقام كل عام، قالت مقدمة الحفل وهي تقدم الفنانة الأردنية ديانا كرزون للجمهور، بأن الفنّانة ستغني للحاضرين أغنية بحرينية باسم “شي معاكم لي خبر زين”، ومنسوبة للفنان البحريني خالد الملّا، لتغني الفنانة كرزون أغنية يمنية معروفة لدى شريحة كبيرة من اليمنيين، قبل سرقتها وتحريفها ونسبها للملّا، وهي أغنية يمنية (شي معك لي أخبار) للفنان محمد علي ميسري.
كذلك الفنان المعروف طلال مداح، في أغنيته “يقولوا لي قنع منك وفي الآخر رماك”، تم سرقة لحن الأغنية اليمنية “يقولوا لي نسي حبك وليه تجري وراه”، للفنان أحمد يوسف الزبيدي ومن كلمات الأمير صالح العبدلي، ولم يُشِر الفنان صراحة بأنها فلكلور يمني، إنما اكتفى بالقول إنّ اللحن فلكلور جنوبي.
لم يكن عمر ومداح الوحيدَين اللذَين تهرّبا من نسب الأغاني والألحان للتراث اليمني، فقد كان للفنان محمد عبده، النصيب الأكبر من السطو على التراث اليمني، بعدد من السرقات، ونكتفي بطرح نموذجين؛ بدايةً بأغنيته سياق الخير، التي حصدت أكثر من تسعة ملايين و600 ألف مشاهدة في قناة “Musicana” على يوتيوب، وملايين المشاهدات في قنوات يوتيوب ومواقع استماع أخرى، قام بسرقة لحن الأغنية اليمنية “العواذل قد كووا قلبي بنار العذل كي” للفنان اليمني إبراهيم الماس المتوفَّى بعدن سنة 1966، واستخدمه في أغنيته، ثم في أغنية “لو كلفتني المحبة من عمري ما قد بقي”، قام الفنان محمد عبده بنسب اللحن لنفسه، واللحن للأغنية اليمنية “شدت خيول العوالق ليتني عولقي” التي غنّاها الفنان صالح العنتري.
مواقع التواصل الاجتماعي أدّت دورًا أكثر فعالية من وزارة الثقافة في فضح الفنانين والملحنين الذين يقومون بمصادرة الحقوق الإبداعية والفكرية ونسبها لأنفسهم.
السرقات تتواصل
لم يتوقف الأمر عند فنانين بعينهم أو خلال فترة زمنية معينة، فقد امتدت أيادي السرقة إلى أعمال يمنية معروفة بشهرتها الواسعة بين اليمنيين، قديمًا وحديثًا، فأغنية الفنان راشد الماجد الشهيرة “أجيبه يعني أجيبه” تم سرقة لحنها من لحن أغنية الفنان اليمني أحمد السنيدار “يا جانيات العناقيد”، ونسب لحن الأغنية للفنان الراحل طلاح مداح. وفي السرقات الحديثة حتى العام 2022، جرى التحقق من الفن الرائج حاليًّا وهو الشيلة، على غرار شيلة “صادق الحب” لأحد رواد فن الشيلة بالسعودية؛ الفنان بدر العزي، التي جرى سرقة لحنها من لحن أغنية “ليلك الليل يا ليل” للفنان علي الآنسي.
كذلك شيلة “زمان الغرابيل” للفنان منصور عثمان، تم التحقق وإثبات سرقة لحنها من أغنية “لمن كل هذه القناديل” إحدى أشهر الأغاني الوطنية للفنان أيوب طارش، وهي من أشعار أحمد غالب الجابري.
من جهته، يقول فؤاد الشرجبي، رئيس مؤسسة البيت اليمني للموسيقى والفنون؛ إن مواقع التواصل الاجتماعي أدّت دورًا أكثر فعالية من وزارة الثقافة وهي المعنية بحماية التراث وتوثيقه، وذلك من خلال إتاحة الردود والتعليقات لليمنيين للتفاعل مع بعض الأعمال المسروقة وفضح الفنانين والملحنين الذين يقومون بمصادرة الحقوق الإبداعية والفكرية ونسبها لأنفسهم، وهو ما يهدد باندثار الموروث الغنائي اليمني.
وهنا تجدر الإشارة إلى تعرض الفنان الإماراتي، حسين الجسمي، لهجوم على وسائل التواصل الاجتماعي من الجمهور اليمني، بعد نشره أغنية مسروق لحنها من لحن أغنية “عيني تشوف الخضيرة” للشاعر والموسيقار الحضرمي حداد الكاف، وغناء أبو بكر سالم، وبعد الجدل الذي ضجّت به وسائل التواصل؛ قام نجل الموسيقار الكاف بالتواصل مع مدير أعمال الفنان الجسمي ليتم بعد ذلك بساعات حذف الأغنية، ومِن ثَم تعديل المعلومات والشرح عليها في مواقع التواصل وفي حسابات الجسمي، ليقوم بتعديل تغريدته ونسب اللحن للملحن الأصلي حداد الكاف.
الكثير من السرقات يتم فيها اجتزاء اللحن وتركيب كلمات معينة عليه أو اقتباس كلمات والقيام ببعض الإضافات عليها لإكسابها طابعًا مختلفًا.
وبالعودة إلى الشرجبي؛ يفيد بأن هدفه من إنشاء المؤسسة، كان مبادرة منه لتغطية القصور في الاهتمام بالموروث الفني اليمني، مشيرًا إلى المؤسسة تعمل على مشروع طموح بالتعاون مع “اليونسكو”، لتوثيق نحو 100 ألف أغنية ومهجل من مختلف مناطق اليمن، موضحًا بأنه وحتى الآن، تم توثيق أكثر من ٦٠ ألف أغنية كمرحلة أولية، لافتًا إلى أنه سيتم إطلاق موقع إلكتروني لاحتواء كافة تلك الأغاني والموروثات الشعبية، مع ذكر اللون الذي تنتمي له، وكذلك المقامات والشاعر والفنّان والملحن، والمنطقة في حال كان مهجلًا كخطوة جريئة للمشروع بهدف توثيق الموروث الوطني وحفظه من التسرب أو الاندثار.
يشير الشرجبي إلى أنّ الكثير من السرقات يتم فيها اجتزاء اللحن وتركيب كلمات معينة عليه أو اقتباس كلمات والقيام ببعض الإضافات عليها لإكسابها طابعًا مختلفًا، مستدركًا: “الحق المادي يسقط بعد ٥٠ عامًا من وفاة الفنّان، ولكن لا يسقط الحق المعنوي، بحيث يجب أن تنسب للتراث اليمني، ولا يحق لأيّ فنان أن يغنيها دون إذن، كما يجب نسبها للفنان الأصلي، كذلك ذكر الملحن، كون هذا الحق ضمنته “الويبو” ولا يسقط مدى الحياة.
احتمالات سلبية
ويرى الفنان والباحث الموسيقي، جابر علي أحمد، بأن انفتاح العالم الآن يعرض التراث الشفهي لكل الاحتمالات السلبية، مشيرًا إلى الضرورة الملحة لوجود مؤسسات معنية بالمصنفات الفنية لمنع السطو الخارجي، ولتقوم بمهام رفع الدعاوى ضد المخالفين لدى مؤسسة (الويبو) التي لديها ممثليات إقليمية في كل القارات. وأضاف: “نحن نعيش مأساة موسيقية حقيقية تشد من أزرها حالة غياب مؤسسات الدولة الثقافية، ويلقي الوضع الحالي بظلاله عليها”.
في حين يرى البعض بأن تسرب الموروث الفني اليمني يشكّل خطرًا على خصوصيته وخصائصه التي تميز ثقافة عن أخرى، ويجب الحد منه. يعتقد الصحفي المهتم بالفن، جمال حسن، بأن الموسيقى مثل الطيور تسافر وتتنقل، ويشير إلى أهمية التأثير والتأثر، لافتًا إلى أن انتقال واستخدام الألحان اليمنية في الخارج قد يُكسبها حضورًا عالميًّا بدلًا من التقوقع، مستبعدًا وجود تأثير مباشر على الموروث الثقافي لليمن، وموضحًا بأن الإنسان منذ عرف الموسيقى وهو يتشارك الألحان وينسبها لثقافته، أو أنها مع مرور الوقت تنسب لتلك الثقافة، مستدركًا بأن المشكلة تبقى في نسب الموسيقى للجهة التي صادرتها وليس لمصدرها الأصلي، ولفت إلى أن التوثيق هو الحل لذلك؛ لأنه من الصعب منع السرقات، حد قوله.
يستمر نزيف الموروث غير المادي، مع استمرار إهمال الجهات المعنية بحفظه، على عكس اهتمام الدول البالغ بإرثها الفني والحضري؛ كون ذلك ما يميز ثقافة عن أخرى وعراقة وإبداع شعبٍ عن آخر، ويبقى الموروث اللامادي شاهدًا على محطات تاريخية بارزة لإبداع وتميز الإنسان اليمني.
يقضي القانون الدولي الصادر عن منظمة الويبو، باعتذار وتصحيح المعلومات الخاصة بحقوق الملكية الفكرية، كما يجري توريد عائدات العمل الفني إلى صاحب الحقوق الأصلي.
وبعد الاطلاع على مهام وزارة الثقافة اليمنية؛ الجهة المعنية بالحفاظ على الموروث الفني اليمني، وبعد التحقق من وجود السرقات والتعدي على الموروث الفني اليمني، توجهنا إلى وزارة الثقافة في صنعاء، لمعرفة أسباب غياب دور الوزارة وتخلفها عن الالتزام بمهامها التي نصت عليها المادة (2) من قانون التأسيس، كما يلي:
تنص المادة (2) من القرار الجمهوري رقم (129) الصادر عام 1997، بخصوص مهام وزارة الثقافة اليمنية على التالي: “تهدف الوزارة إلى تنمية الثقافة الوطنية والفنون والتراث الشعبي، والمحافظة على الموروث الثقافي والتاريخي والحضاري ونشره والتعريف به”.
حقوق مهدرة
لم نتلقَّ أيّ ردّ أو توضيح من الوزارة حول عدم الالتزام بمهامها، وعدم اتخاذ أي خطوات أو إجراءات عملية للتصدي ومنع سرقات الموروث الغنائي اليمني من خلال المتابعة ورفع شكاوى ضد الجهة أو الفنان أو الملحن الذي جرى التحقق من سطوه على الحقوق الفكرية لفنان أو ملحن يمني أو نسب التراث اليمني لبلاده أو تجاهل نسبه صراحة لليمن، كون ذلك ضمن المهام المناطة بوزارة الثقافة اليمنية، كما جاء في البند الـ(9) من المادة (16)، في الفصل الثاني من قانون التأسيس ضمن مهام واختصاصات إدارات الوزارة، نذكره هنا بالنص: “حماية حقوق المؤلف واتخاذ كافة الإجراءات القانونية الكفيلة بتحقيق ذلك، بالتنسيق مع الجهات المعنية”.
ويقضي القانون الدولي الصادر عن منظمة الويبو باعتذار وتصحيح المعلومات الخاصة بحقوق الملكية الفكرية، كما يجري توريد عائدات العمل الفني إلى صاحب الحقوق الأصلي، إضافة إلى ذلك فرض عقوبات على الفنان المدان بما تراه المحكمة، إلا في حالات معينة ووفقًا لقانون الملكية الفكرية الذي يقضي بانتهاء الحقوق المادية لفنانها أو ملحنها بعد انقضاء مدة 50 عامًا من وفاته- سيتم ذكره لاحقًا وفقًا لاتفاقية “برن”؛ وذلك ما لم يحدث لأي من السرقات التي يثبتها هذا التحقيق.
من الجدير ذكره أن اتفاقية “برن” الدولية للملكية الفكرية، والتي وقعت عليها كلٌّ من اليمن والمملكة العربية السعودية، تقضي بالسماح باستخدام بعض المصنفات الفنية كـ”تراث” مع الإشارة إلى البلد الذي ينتمي إليه ذلك التراث، وهو ما لم يُشِر إليه أيٌّ من الفنانين الذين جرى التحقق من سرقاتهم في مصنفاتهم المسروقة.
ويقترح الباحث الفني اليمني، جابر علي أحمد، تأسيس مراكز للتراث الشفهي مزودًا بكادر متخصص ولا مانع من الاستعانة بكوادر عربية ذات خبرة عميقة في ذات المجال، ووضع خطط لمسوحات ميدانية لكافة مكونات التراث الشفهي وإخضاعها للرصد والتصنيف والأرشفة الإلكترونية والورقية، وفتح مجال البحث أمام الكفاءات الوطنية والعربية للخوض في هذا المجال.
وإنّ مما لا يدع مجالًا لاستغراب رد فعل الفنانة الإماراتية أحلام، على غناء المتسابق عبدالله الخليفي، الأغنية اليمنية “كلمة ولو جبر خاطر”، هو أنها كانت تعتقد بأن الأغنية سعودية؛ نظرًا للتداول الواسع للأغنية على الشبكة العنكبوتية على أنها لعبادي الجوهر، وهي إحدى الأغاني التي اشتهر بها الفنان اليمني محمد سعد عبدالله، وغنّاها منذ عقود طويلة ليتم السطو عليها من قبل الفنان والملحن السعودي عبادي الجوهر، الذي قام بنسب كلماتها للأمير السعودي عبدالرحمن بن سعود، وهي من كلمات وألحان وغناء فنّانها الأصلي محمد سعد عبدالله، وبعد جدل واسع لاحقًا قام بتعديل بسيط، بنسب اللحن فقط لمحمد سعد عبدالله.
وننوه إلى أنّ هذا التحقيق، ليس للحصر والرصد، وإنما لدق ناقوس الخطر، بشأن استمرار وتواصل السرقات للموروث الشعبي اليمني حتى عام 2022، بإمكانيات متواضعة من قبل معد التحقيق.
نقلا عن منصة “خيوط”