فخر العزب
كانت لي رحلة مع الخط العربي كفن، استهواني واستولى على اهتمامي، ونلت منه كوظيفة لتتأكد العلاقة بأن له حضورًا وأهمية ومكانة اجتماعية وفقًا للحاجة إليه في وظائفه المتعددة، وحين احتلت التكنولوجيا وتمت مصادرته فيها تساوت القدرات مع تلك التطفلات عليه، فصار الخط العربي رحلة معي، فهو فن وتغيير وإمتاع ومؤانسة بلا وظيفة أو عائد منه، فله عندي نوع من الوفاء لذكريات قديمة”.
هكذا يلخص الخطاط اليمني أحمد منصر الذبحاني، رحلته مع الخط كفن، وهي رحلة طويلة وماتعة طوال مراحلها التي لم تخلُ من الصعاب، لكنها تركت بصمات واضحة في عالم الفن التشكيلي اليمني.
يعد الذبحاني واحدًا من رواد الخط العربي في اليمن، والذين تركوا بصمتهم في مسيرة الخط العربي كفن تشكيلي، وظل متمسكًا بالقلم والفرشاة على الرغم من الثورة التكنولوجية التي حدت من انتشار هذا الفن، وأثرت على تواجده، على أن ذلك لم يمنع الذبحاني من التمسك بفنه الذي عشقه حتى الثمالة ولايزال.
ولد الخطاط الذبحاني في تربة ذبحان العام 1964، وتلقى دراسته الأولى في عدن، وحصل على دراسات عليا في السوسيولوجيا والفلسفة وعلم النفس، وهو خطاط، ورسام، ومصمم.
إبداع ومهارة الخطاط الذبحاني أهلاه للعمل بالصحف والمجلات اليمنية، أبرزها صحيفتا “الثورة” و”26 سبتمبر”، كما أنه خطاط لأعمال مؤسسات الدولة، إذ عمل بأعمال التوجيه المعنوي من كتابة الشهادات والبراءات وبطائق دعوات الرئاسة والتهاني العيدية للرؤساء والأختام، وقد تميز في كتابات اللوحات الإعلانية نتيجة جمعه بين الخط والرسم والتصميم.
ويكتب الخطاط الذبحاني كل أنواع الخط العربي، والقاعدة التي لا تسعفه في جمال يشذ عنها، وهذا لا يعني نفيها بل تأكيدها كما يقول.
ويرى أن جماليات الخط العربي تكمن بأنه “علم وفن وفلسفة، ممارسته تحتاج لسيكولوجيا نفسية، في نوعية الاتصال، بالعلاقة به، بالثقة والثبات وسرعة التصرف والحركة ومحددات الإدراك، باللين والشدة، وإعطاء الحركة بالقلم حقها في التصرف المرن الذي يكسب الحرف دون تلكؤ أو رسم له، برقصة قلم كعزف للرائي كأنه أنغام تأتي من أوتار وهو صامت”.
ويشير إلى أن الخط هو الوصول به من نقطة لأخرى، ومن مفصل لآخر، بحركة اتزان وتحكم نفسي وسيطرة على المنظور، في شكل جمالي عام، وبعلاقة اتصال بين الأحرف والكلمات وأنواع الخطوط تمنحه كمال الانسجام”. حسب تعبيره
وعن علاقة الخط العربي كفن بالزخرفة يؤكد الذبحاني أن “الخط العربي هو زخرفة بذاته إذا أحسن الخطاط توزيع وتناظر حروفه وكلماته في كتل منسجمة، فلم يعد يحتاج لزخرفة إلا إذا كان لا يفي بجمال زخرفي في جمال كتابته”.
ومن وجهة نظره، فهناك “ميزات لحروف اللغة العربية في الخط، فهو يرى أن ميزة اللغة العربية أن على رأسها تاج، يتمثل بجمال أخاذ، يزين عالمها البديع وكمال بنيانها اللغوي والنحوي، ووضوح بيانها هو الخط العربي، فاللغة العربية هي الوحيدة من اللغات إذا ذكر الخط ذهب العقل بالتأويل والفهم على أنه خط حرفها العربي دون تركيب المفردة بما تسمى العربية، فهي بذلك تعتبر بالخط العربي ضمانًا لبقاء شخصيتها ومصيرها التاريخي بما يمثل الأمة كوجود حضاري وتاريخي”.
ويشير إلى أن “تقييم الخط العربي في اليمن بحاجة لبحث منهجي وتتبع، ولا يستطيع اختزاله بأحرف وكلمات، ومن أبرز التحديات التي تواجه الخط العربي أنه لم يعد يرتبط بوظيفة كما كان عزيزًا”.
من منظور الخطاط الذبحاني، فإن “تقييم الخطاطين على الساحة اليمنية يمكن أن يأخذ منحىً فلسفيًا ومنهجيًا وطريقة معيارية عن أحكام أخرى، فلكل خطاط طريقته وأسلوبه وأداؤه واجتهاداته وتأثره وتقليده وإبداعه الذاتي المميز، لأن الخط العربي للأسف معياره الكلي قواعده، فماذا لو كتب الخطاط خارج هذا المعيار وأعطى جمالًا! ومثل هذا القول سيدخل الموضوع في نقاش بين الجمود والتجديد”.
وإلى جانب موهبة الخط التي يمتلكها، يعد الخطاط الذبحاني واحدًا من أبرز المثقفين الذين درسوا الفلسفة وعلم النفس، ما انعكس على جماليات إبداعهم في ترويض الحروف أثناء كتابتها بأنواع الخط المختلفة، وهو ما يدعو للخوض في غمار شخصيته كفيلسوف وفنان في نفس الآن.
يقول الذبحاني: “شخصيتي تتحدد بإزاء الآخر، وهي تكوُّن مستمر في إطار الهوية، تعارك المصير، يستطيع من تعرف عليها قراءتها، لا أتقوقع في انغلاق محدد يؤطرني كتنميط ثقافي أو فني أو تخصص، ولو تغلب عند الآخرين وسمي بسمات محددة كخطاط، لكن للآخر حرية الرأي في تموضعك مع قناعاته”.
نقلا عن موقع “المشاهد”