نجيب مقبل
قلت له ذات صباحٍ عدني أواخر تسعينيات القرن الماضي، وأنا في مكتبي في رئاسة الصفحة الثقافية في صحيفة (١٤ أكتوبر)، وقد دعوته وهو ماشٍ في ردهة بناية الصحيفة:
أستاذ محمد، أستاذ محمد.
التفت وراءه ولمحني من باب المكتب: هل دعوتني؟
قلت: نعم!
وأردفت بعد أن عرفته بشخصي:
“أستاذ محمد، لماذا لا تكتب خواطر وذكريات لك في الفن وأهل الفن، وأنا مستعد على نشرها بل يشرفني أن أنشرها، لما سيكون لها قيمة فنية وتاريخية في تاريخ الغناء، بل في تاريخ عدن والبلاد لما لها من ارتباط وعلاقة بين فن الغناء والأحداث العامة على مدى نصف قرن مضى”.
ورحت أسرد له أهمية المشروع الغنائي الذي كان هو مع ثلة من أعظم فناني عصره: خليل محمد خليل والبامدهف ومحمد مرشد ناجي وأحمد بن أحمد قاسم وإسكندر ثابت والعطروش والعزاني والزيدي وآخرين صنعوا أهم مأثرة غنائية صنعت الأغنية الحديثة، وكان لها ارتباط بين التجديد في الفن والغناء وبين أحداث في ذلك العصر.
استمع لي بكل شغف وبابتسامته التي لا تفارقه، ربت على كتفي، قائلًا:
لا يمكنني فعل ذلك، والسبب، حتى لا أتطرق لأحد بكلمة كذا وكذا، أو يزعل مني فلان أو جهة، خلينا مع الرياضة وأهل الرياضة.
كان دافعي للتحفز والتطفل بدعوة الفنان الكبير محمد سعد عبدالله، أنه كان يأتي إلى الصحيفة مارًّا بهدوء ودون تكلف ويتوقف عند القسم الرياضي يسلم مديره الأستاذ محمد عبدالله فارع أو الصحفي الرائع حسين يوسف قصاصة من الورق، هي عبارة عن خواطر رياضية متنوعة ينشرها بانتظام في الصفحة الرياضية.
استعجبت من هذا الفنان القامة الذي أقعد دنيا الفن وأقامها بأغانيه التي جابت البلاد والخليج، وأغانيه تملأ الدنيا وتصدح بكلماته وألحانه بصوته العذب، أن يختار الكتابة للرياضة وأهلها، قلت: ربما لعشقه عالم الرياضة وعالم كرة القدم العدنية، وربما كان لاعبًا سابقًا في شبابه كما كان الفنّان الكبير محمد مرشد ناجي لاعبًا في فريق الواي سي سي بالشيخ عثمان، ربما وربما.
لكن الملفت بالنسبة لي كان أنّ هذا الفنان من خلال قراءتي لكتاباته الرياضية ومن بعد لاطلاعي على وريقات كتاباته الذي كان يدفعها للنشر، أن الفنان محمد سعد يمتلك موهبة وقدرة عالية على الكتابة بلغة سليمة بليغة الفصاحة وبأفكار منتظمة تؤهله للدخول الى عالم الكتابة ليس للصحافة بل للكتابة الأدبية والنقدية والتوثيقية وغيرها، زد على ذلك أنني عندما قرأت نصوصه الأصلية التي كان يكتبها اكتشفت فيها الخط الجميل وأناقة الجمل والتزامه الحرفي بأدوات الإملاء والنحو.
غرّني كل ذلك أن أرى فنّانًا يتجاوز مهنته الأصلية كفنان ومطرب ويقدم نفسه لي، عدا كونه فنانًا، كمثقف يمتلك هذه الرؤية والأفكار الناضجة وسلاسة اللغة.
إنّ الجمع بين الفنّان موسيقيًّا ومطربًا وبين أشياء أخرى مختبئة بين معطف شخصه، أحالتني إلى الفنان الكبير محمد مرشد ناجي، ذلك الفنّان والمثقف والسياسي الذي جمع كل ذلك وترجمه في كتب بحثية عن فن الغناء وجسّده في مواقف وانتماءات سياسية وشخصية عامة، ترجمت أحداث المراحل التي عاشها، ورأيت أن كتابات الفنان محمد سعد عبدالله دالة على إمكانية كامنة في الكتابة للفنّ وتاريخه وأحداث عامة مرتبطة بها.
لذا كان توجهي له بطلب الكتابة للصفحة الثقافية، نابعًا من جملة هذه التخمينات التي رأيت الفنان الكبير يقوم بهدر طاقة إبداعية للصحافة الرياضية -مع احترامي الشديد لأي كتابة في الرياضة وغيرها- حَرِيّة بأن توجه لكتابات أهم وأغنى لعالم الفن والغناء والموسيقى، وهو أحد صناع تاريخه المجيد.
لقد تكونت لدي قناعة بأن الفنّان ابن سعد، صاحب قلم رشيق وذو رؤية أبعد من تلك التي تحصره بصفته فنان ومطرب في عالمه الفني وفي انشغالاته الشعرية واللحنية، ورأيت أيضًا أن أستغل الفرصة لأوجّه طاقته الكتابية إلى نشر مذكراته الخاصة وخواطره المبعثرة التي ستكون ذات أهمية وقيمة تاريخية وفنية وعامة.
لكنني اكتشفت في ردّه أنّ الأمر فيه تنفيس عن الإهمال الذي طال الفن والفنّانين الذي جرى بعد عام 1994، من تجريف أرشيف الغناء من مكتبة تلفزيون وإذاعة عدن والمنع غير المعلن عن بث أغاني الفنانين الكبار، إلا من بضعة تسجيلات لهم في تلفزيون صنعاء، ولقد حاول هذا الفنان المتفجر إبداعًا ونشاطًا في الفن والغناء تفجير طاقة كامنة فيه، وهي طاقة الكتابة كمقاومة ناعمة لحالة الإهمال المتعمد.
ولأن ابن سعد شخصية ذات طبيعة توافقية وغير إشكالية وذات بعد إنساني في المعاملة مع الآخرين، يخشى فيها ملامسة الحقائق والشخوص التي قد تثير اللغط وسوء التقدير، ولا تحبذ الدخول في مشاكل مع الآخرين من أهل الفن أو من غيرهم، فترك لنفسه طريقًا مغايرًا، هو الكتابة للرياضة التي لا يختلف فيها أحد، إذا انتقد وشخّص مشكلة أو عبّر عن رأي فلن يلام عليه.
حالة الفراغ الإبداعي والقهر الكامن من هذا التجبر الذي طال الفن وأهل الفن في عدن من سلطة 7/7 الثقافية والإعلامية، هي من جعلت من فنان كبير بقامة الفنان محمد سعد عبدالله يكتب للرياضة كتفريغ طاقة إبداعية، بل الأدهى من ذلك دفعته تلك الظروف القاهرة التي مسته في كرامته الفنية، وفي مصدر عيشه، إلى أن يبيع أغلى ما صاغ من أغانٍ وموسيقى لفنّانين في الجزيرة والخليج لكي يواجه متطلبات الحياة.
وهل هناك أدهى وأعظم من هذه المصيبة التي حلت بفنّاننا الكبير وبغيره من فنانينا الكبار؟!
الخلاصة قالها الفنان ابن سعد، من دون أن يتفوه بها: “خلينا في كتابة خواطري الرياضية، بعيدًا عن السياسة وعن الحديث في الفن وأهله والغناء ورواده حتى لا تخرج مني كلمة كذا أو كذا عن أحبابي الفنانين وأصحابي المقربين وعن الساسة والأحزاب والندوات، وأصحاب السلطة أيامها”.
هذه خلاصة ما أحسست به من مشاعر قهر تخرج من جوانح فناننا الكبير.
ضاعت مني -يومها- انفرادة كنت أمنّي النفس أن أجترحها من فنان كبير يأتي بتواضعه الجم لينشر خواطر رياضية بعيدة عن عالمه، وليست ذات قيمة تاريخية أو نقدية عبرت عن قلم مهيض الجناح الإبداعي الفني، وطارت مني فرصة أن أصنع من قلم الفنان ابن سعد الأنيق كتابة فنية نحن أجدر ما كنا بحاجة إليها في النقد والتوثيق الفني من قلمه الرشيق.
لكن تلك الفرصة الضائعة حقّقت نجاحًا جانبيًّا تمثل في التواصل المستمر مع الفنان الكبير، من خلال مناسبات سنأتي على ذكرها.
لم تتح لي فرصة أن أقترب كثيرًا من حياته الشخصية، لكن سطورًا من هذه الحياة تعرفت عليها ورأيت بعضها بأم العين بالمشاهدة والمشاركة معه في أكثر من مناسبة.
لم يُعرف عن ابن سعد ابتعاده عن الشارع والناس وحياة الحارة، وجلّ صداقاته مع بسطاء الناس من أولئك الذين اختارهم من هذا المجتمع الشعبي.
فنّان يستنشق من هواء الشارع رائحة النغم
كانت للفنان ابن سعد طقوس يومية وحياتية واظب على القيام بها في رحلته الفنية، ومن هذه الطقوس التصاقه بالشارع، بكل ما فيه من تنوع بشري وصخب وضجيج وحركة لا تتوقف من البشر والحيوانات والآليات.
فمن المعروف عنه جلوسه على كرسيه في عصرية كل يوم، في شارع قسم (سي)، في الشيخ عثمان، وهو شارع مشهود له بالحركة، باعتباره امتدادًا لسوق الشيخ عثمان، كما أن به محطة نقل من الشيخ إلى دار سعد.
هذا الشارع هو معرض بشري لحركة السيارات والناس، وفيه يكثر أناس من هامش المجتمع ومن ساكني قارعة الطريق من الخرازين وبائعي الدجاج والحمام، ومن نساء الطريق اللواتي يبحثن عن لقمة العيش، وأطفال من طبقات مجتمع سحيق.
وفي هذا المجتمع السحيق الذي يكتظ به الشارع، يجلس الفنان ابن سعد متأملًا الناس والسيارات و(جواري) الجمال والحمير وحركة النساء السمراوات والرجال الكادحين الباحثين عن لقمة عيش ويمزجونها بقهقهات وضحكات، وربما شتائم متبادلة صادرة عن مجتمع لا مخملي بالطبع.
في هذا الجو الشعبي، وجد الفنان ضالته الإبداعية في اختيار الكلمات التي استقاها من حنجرة الناس ومن ألفاظهم وجملهم البسيطة، وترجمها في نصوص غنائية، وبين هذا الصخب والضجيج الذي يملأ سماء الشارع والسابلة وخوار الجمال ونهيق الحمير، التقط ابن سعد أجمل وأعذب الألحان وأصدق النغمات.
لم يعرف عن ابن سعد ابتعاده عن الشارع والناس وحياة الحارة، وجل صداقاته مع بسطاء الناس من أولئك الذين اختارهم من هذا المجتمع الشعبي.
لذلك كنت أقول عن الفنّان في أكثر مناسبة أن ابن سعد كان يلتقط إبداعه الفني من حنجرة الشعب، من فم بسطاء الناس، وهو بهذا تفرد عن مجايليه الفنانين الذين كانوا أقرب إلى النخبوية وأبعد من الشعبية، من حيث نمط الحياة وأسلوب المعاشرة وجلسات المقايل واختيار الصحبة والأصدقاء.
كانت رائحة الناس المعروقين والأسمال البالية، وربما رائحة الجمال والحمير والدجاج والنساء العَطِنات اللواتي لا يعرفن للبخور والعطور سبيلًا، هو ما يضمخ أنف الفنان ويجدد هواء البقاء والاستراحة والصحبة معهم والإبداع من خلالهم.
لذلك عندما نتساءل: كيف يصوغ الفنان ابن سعد أغنيته نصًّا ولحنًا، وتحقّق كل ذلك الانتشار؟ يكون الجواب أنه قد التقط من هذا الجو الشعبي بساطة الكلمة وسلاسة اللحن وعذوبة النغم الذي استقاه من الرائحة الشعبية.
على أنّ ذلك الوسط الشعبي البسيط الذي اختاره نموذجًا للحياة والعشرة لا يسقطه في براثن الأغنية الشعبية الصرفة، بل إنه هنا -وهذا مصدر تفرده الإبداعي- يرتقي بالشعبي إلى مستوى أغنية راقية اللحن بسيطة المعنى.
فهو يستخدم أدواته الإبداعية وفطرته الملهمة في جعل هذا الشعبي المهمل، شكلًا غنائيًّا يخاطب المتلقي بكل مستوياتهم الاجتماعية.
خامته الشعبية في التناول والتخييل وصياغة الكلام تلتقي مع مخزونه الإبداعي اللحني والنغمي وتجديداته في الصياغة، فهو لا يستسلم للداني من سقط الكلام والنغم، وإنما يتسامى مع داخله التجديدي والتطويري.
لذا فأغنية ابن سعد أخذت مساحتها الواسعة من التلقي الطربي من شريحة واسعة؛ لأنها أخذت طريقها إلى السماع والاستمتاع بصياغة فريدة هي مزيج من البساطة في الكلم والنغم ومن الاشتغال الموسيقي الذي يرتقي بالأغنية ويطورها شكلًا ومضمونًا، فهي لا غادرت بساطة الشعبي ولا جافت الاشتغال الموسيقي التجديدي.
أغنية ابن سعد وجدت طريقها إلى المتلقي البسيط من أبناء الشارع الذين جاورهم في حياته، وإلى ذلك المتلقي من ذوي الذائقة المرتفعة من متوسطي المجتمع.
بل إنّ أغنيته الفريدة في تشكيلها الغنائي الذي ينتمي إلى السهل الممتنع، وجدت قبولًا واسعًا من الجمهور العربي في الخارج، وأصبحت أغانيه مطلوبة أكثر من زملائه الكبار؛ أحمد بن أحمد قاسم ومحمد عبده زيدي كمثال، لأنّهما اختارا نمطًا في التلحين أقرب إلى النمط النخبوي الذي يتوجه لجمهور من مجتمع الطبقة المتوسطة.
استطاع ابن سعد اختراق التفاوت المجتمعي من بسطاء الناس إلى أبناء الطبقة الوسطى على حد سواء، كما أن أغانيه استطاعت أن تتجاوز جغرافيا الوطن؛ لأنّها استمدت من المحلية سلمًا إلى الغناء العربي والخليجي، ولم يجد المستمع العربي في جزيرة العرب وخارجها أي صعوبة في تلقيها بسلاسة ويسر.
كما إن أغاني ابن سعد تلقى قبولًا لدى الجيل الجديد، الذين (احتلت) آذانهم ألوان غناء خارجية، عربية وخليجية وعالمية، وترك الغناء المحلي وراءه كمًّا مهملًا، لكن غناء ابن سعد هو أقل فنان هجر أغانيه المتلقون من شباب الجيل الجديد، وما زال يتداول بين مجالسهم ومقايلهم ومن إذاعات سياراتهم.
قلت ذات يوم: “محمد سعد عبدالله ثروة وطنية تمشي على قدمين، واليوم بعد رحيله لم ولن أتخلى عن القول بأن الفنان الراحل محمد سعد عبدالله ما زال ثروة وطنية وقومية تمشي بقدمي التاريخ”.
مع ابن سعد في لقاءات شخصية ومعرفية
لا أدّعي معرفة وتوغلًا في تحليل ونقد عالم الغناء والموسيقى؛ لأنّ هذا العالم له خصوصيته كإبداع وله رجاله المتخصصون، لكنني ومن خلال تقييمي الشخصي وتذوقي الفطري، والأهم من ذلك رؤيتي النظرية بأن الغناء جزء مهم من الثقافة ومن التطور الثقافي بل هو أحد دوال المشهد التاريخي للمجتمع وللعصر، وله من دلالات وتأثيرات سياسية واجتماعية في قراءة العصر ماضيًا وحاضرًا، من كل ذلك كان لي اهتمام بالفن الغنائي وبأهل الفن، وقراءاتي الخاصة لأي فنان وفن هو من قبيل التحليل التذوقي أولًا، وثانيًا من خلال قراءة تأثيره ومن جهة الاشتغال على التجديد كأداة ثقافية عامة.
ولقد كان لي أن أساهم في قراءة فن الفنان محمد سعد عبدالله في أكثر من مناسبة، ولعل أهمهما ما تناولته في ندوة أقامتها (جمعية تنمية الموروث الشعبي) عن هذا الفنان الكبير، وفي مناسبة أخرى؛ في ندوة أقيمت في نادي (الوحدة) الرياضي أواخر تسعينيات القرن الماضي، مخصصة لفن وإبداع ابن سعد بحضور واسع من الجمهور.
لكن اللقاء الأهم مع هذا الفنان القدير، هو في استضافتي في تلك الفترة في برنامج (فنان وشاعر) على شاشة تلفزيون عدن، لمعِدّه ومقدِّمه الأديب والشاعر والصديق الراحل عبدالله باكدادة، حيث كان الضيف الفنان هو الفنان الكبير محمد سعد عبدالله، وشاء زميلي الراحل باكدادة أن يجعلني الضيف الشاعر مع هذه القامة الفنية.
في هذه الحلقة، استرسلت في وصف القيمة الإبداعية غير المسبوقة للفنان ابن سعد، وأهم ما قلت يومها بل كررت ما سبق أن قلته في مناسبات سالفة:
- محمد سعد عبدالله ثروة قومية تمشي على قدمين.
- إبداع الفنان ابن سعد يستقيه من حنجرة الشعب.
وكثير من التحليل الموضوعي والكلام الوصفي والتحليلي لدور وأهمية فن ابن سعد في تاريخ الأغنية المعاصرة منذ الخمسينيات وحتى اليوم.
بعد انتهاء الحلقة وخروجي من الاستديو، استوقفني الفنان الكبير عند بوابة الإستوديو، وعانقني بحرارةٍ أخجلتني من هذا التواضع الجم لأحد قامات الغناء، وقال لي:
“كنت أعتقد أنك تحبني وتحب فني، لكنني اكتشفت من خلال حديثك طوال الحلقة أنك لا تحب محمد سعد وفنه فحسب، بل إنك تعشق محمد سعد، ولم أجد في حياتي عاشقًا مثلك لفن ابن سعد”.
واسترسل: “رغم عمري الطويل في الفن والغناء، فإنني من خلال حديثك وتحليلاتك اكتشفت نفسي من جديد!”.
قلت بخجل: “أنت قامة وهامة في الفن والغناء سيخلدها التاريخ، والذي قلته شيء يسير من سيرة عطرة وملهمة لجيلنا وأجيال قادمة”.
ظلّ الفنّان ابن سعد من فرط سعادته بالحلقة محلقًا بي حتى نهاية الردهة المؤدية إلى البوابة الخارجية لمبنى التلفزيون، حيث ودعني بحرارة وما يشبه الدموع في عينيه.
حقًّا إنّ العظماء يأتي عليهم زمن يتجاهلهم القادة وتجافيهم السلطة السياسية والثقافية ويتناساهم المثقفون. وفي مثل ذلك الزمن الجاف والأيام العجاف التي ضربت مبدعين كبار، ومنهم فنان بحجم وطن مثل محمد سعد عبدالله، ويأتي واحد مثلي من زمن غير زمنه، ويلقي على مسامعه ما يثلج قلبه، ويستكشف معناه وقيمته التاريخية، في مثل هذا الموقف لا تستغرب أن ترى قطرتي دمع تملأ عيني قامة وهامة مثل محمد سعد، ليس قهرًا مما جرى بل فرحًا بأنه بين هذا الحطام النفسي ثمة من يذكر، ومن يتذكر !
هذا ليس مدحًا بشخصي بل قدحًا في زمن جعل أحد العظماء من الرواد يتوسل كلمة وفاء في حياته وهو في خريف العمر.
محمد سعد عبدالله أكبر مما قلت وسأقول، أو يقوله من هو أفضل وأعلى قيمة نقدية مني.
قلت ذات يوم: “محمد سعد عبدالله ثروة وطنية تمشي على قدمين، واليوم بعد رحيله لم ولن أتخلى عن القول بأن الفنان الراحل محمد سعد عبدالله ما زال ثروة وطنية وقومية تمشي بقدمي التاريخ”.
اشتغل ابن سعد على مكامن التجديد من وحي روح التراث وتنوع ألوان الغناء والإيقاعات المحلية التي درسها وغنى بأشكالها، ولم يهمل روح العصر فنيًّا من خلال ألحان تواكب روح العصر.
الخروج من مأزقي المرشد وابن قاسم
ما السر الذي يكمن وراء حالة الانتشار والرواج والقبول المحلي الداخلي والخارجي العربي لأغنيات محمد سعد عبدالله؟
ربما تأتي الإجابة من ثلاث موجهات:
- اقترابه من ألوان الغناء المحلية ودراستها منذ بكورة حياته الفنية.
- ابتعاده عن نخبوية الأداء الموسيقي والطربي.
- توجهه إلى البساطة وإلى الشعبية، معيشةً ومعاناة.
ففي الوقت الذي بدا فيه الفنان بسيطًا ومتبسطًا في اختيار الكلم واللحن السلس، كان يخفي وراء ذلك روحًا تجديدية ومعاصرة لا تخفى على المستمع العادي، كما على الناقد المحترف.
استطاع ابن سعد أن يخرج مما أسميه تجاوزًا، مأزق الفنانين الكبيرين والرائدين؛ محمد مرشد ناجي، وأحمد بن أحمد قاسم.
فهو لم يكن في أغانيه رغم محليتها منغلقًا على تكريس أغنيته باللحن والإيقاع والنغم المحلي كما فعل المرشد الذي اختط المحلية نهجًا وأسلوبًا في التلحين والغناء، كما أنه لم يختط أنموذج أحمد قاسم الأكثر حداثية وتجديدًا واقتداء بالموسيقى والغناء العربي وربما العالمي.
فأغنية ابن سعد بقدر ما تنتمي إلى الروح المحلية تلحينًا وأداء، فإنها لا تخلو من تجديد لا يصل إلى الارتماء في حضن التجديد المؤدّي إلى التغريب.
ولا شكّ أنّ تجربتَي المرشد وابن قاسم لهما من القيمة التي ساهمت في تجديد مسار الأغنية الحديثة، كلٌّ بتوجهه الخاص، إلا أن تجربة ابن سعد خرجت من مأزقي المحلية المفرطة والحداثية التغريبية، فهو لم ينغمس في المحلي انغماسًا كليًّا كما فعل المرشد وصال وجال وأبدع فيها، ولم ينجر إلى الاشتغال الموسيقي واللحني التجديدي متأثرًا بروح الغناء العربي والعالمي، كما فعل ابن قاسم وأحدث نقلة موسيقية لا ينكرها أحد، بل كان وسطيًّا في الجمع بين الحالتين: اشتغال على التراث والألوان الغنائية المحلية، وتقديم أغنيته بروح عصرية.
لقد تجاوز محنة المرشد في الدعوة إلى الانغلاق الكلي على المحلي، كما تجاوز سهام الاتهامات لابن قاسم بالتغريب اللحني والموسيقي البعيد عن واقعه المحلي.
لم يأتِ هذا الخروج الفذ من مأزقي المرشد وابن قاسم من المحلية والتغريبية من دون أن يكون لابن سعد تلك الفطرة والفطنة؛ فطرة الموهبة التي تجلت منذ بداياته وسخرها في إبداع أروع الألحان، وفطنة في الانتماء لروح العصر من دون أن يفقد هويته الخاصة.
اشتغل ابن سعد على مكامن التجديد من وحي روح التراث وتنوع ألوان الغناء والإيقاعات المحلية التي درسها وغنى بأشكالها، ولم يهمل روح العصر فنيًّا من خلال ألحان تواكب روح العصر.
جمع بين روح التراث وألوان الغناء وإيقاعاته المحلية وعصريته في قالب خاص يبدو للجميع أنه قريب منه وينتمي إليه، بل ويتفهمه أو يتوق إليه الآخر المتلقي غير المحلي.
ومن هنا تتجلى عبقرية الفنّان الذي استطاع أن يجمع حول أغنيته المستمعَ المحلي والعربي على حد سواء، يتذوق أغانيه من دون حواجز لغوية أو لحنية.
ذات مساء جاء إلى المستشفى مسؤول كبير، وظنّ الممرضون أنه أتى لعيادة الفنان الكبير، لكنه خيّب ظنّهم، فقد جاء لعيادة عسكري مرموق، ومرّ بجوار غرفة ابن سعد وتجاوزها.
عن الرحيل القاسي
قيل إنّ الفنّان الكبير محمد سعد عبدالله، كان في فترة مرضه الأخيرة مرقدًا في إحدى غرف مستشفى الجمهورية في عدن، يتلقى العلاج من دون أن يلتفت إلى حالته المرضية أحدٌ من مسؤولي الدولة، كعادتهم مع الرواد والمبدعين ولا حرج.
وذات مساء جاء إلى المستشفى مسؤول كبير في عدن، وظنّ الممرضون أنه أتى لعيادة الفنّان الكبير والمحبوب ابن سعد، لكنه خيب ظنهم، فقد جاء لعيادة عسكري مرموق في المحافظة، ومرّ بجوار غرفة ابن سعد وتجاوزها إلى غرفة العسكري الهمام، دون أن يبادر إلى أي رغبة أو اعتذار عن عيادة الفنان في مرضه، رغم تنبيهه بأن الفنّان الكبير ابن سعد يرقد في نفس المستشفى، وفي غرفة مجاورة لغرفة الضابط الأمني الكبير.
مات الفنان الكبير محمد سعد عبدالله في مرضه هذا دون أن يتلقى منحة علاجية من الدولة، ودون عيادته من أحد المسؤولين.
أتذكر مقولة كانت تجري على لسان أحد المسؤولين في عدن المنكوبة بنكبة 7/7، يصارح بها أحد المقربين إليه، فحواها قوله: أبعدنا من المثقفين والأدباء والفنانين ومن لف لفهم، ولا تقربهم إلى عندي للزيارة أو اللقاء، هؤلاء أصحاب شكوى وأنين، لا نحصل منهم غير “الشُّكى والبُكى” وكثرة الطلبات ووجع الرأس!
صحيح قوله الذي نطق به هذا المسؤول، وهو في غيه لاستكمال عملية الفيد بالتعاون بين السلطة المحلية وعساكر الأمن الذين كانوا يتخاطفون بقع الأراضي والبنايات ومباني الدولة والقطاع العام، ويتقاسمونها في ظل حماية قانونية من السلطة المحلية وسلطة ووصاية عسكرية وأمنية قابضة.
وبالتالي، ما الذي يجنيه هذا المسؤول المحلي المنتشي بزهو انتصارات فيد الأراضي والمباني، من عيادة فنان ولو كان كبيرًا، غير مطالبه في العلاج، وهو غير “فاضي” لشكواه، والأحرى به عيادة العسكري الأمني الذي مِن ورائه سوف لا يجني وجع الرأس، وإنما فيد الأراضي والمباني واقتسام الغنيمة !
ختامًا:
أبا مشتاق، ألف رحمة ونور على روحك أيها الباقي في وجداننا وتاريخنا الناصع.
لك الرحمة وأنت المخلد في ذاكرتنا وذاكرة الأجيال القادمة.
أما أبناء الفيد والغنيمة فإلى مزبلة التاريخ!
نقلا عن منصة “خيوط”