فاز الفنان جيسي دارلينغ بجائزة “تيرنر” Turner لعام 2023 التي تقدر بـ25 ألف جنيه استرليني، عن عمله النحتي الذي يتناول قضية الحدود، مما يعِد بأن يكون قراراً شعبياً من قبل لجنة التحكيم. ويعتبر دارلينغ الذي يبلغ من العمر 41 سنة ويقيم في برلين، ليس فقط الخيار المفضل لدى النقاد بل الخيار الجاد الوحيد في قائمة المرشحين التي تضمنت أسماء غير متوقعة.
لكن لجنة تحكيم جائزة “تيرنر” عرفت باتخاذها قرارات غير متوقعة خلال الأعوام الأخيرة، بدءاً من قرارها بمنح الجائزة بالتساوي لأربعة فنانين عام 2019 وصولاً إلى اختيارها لإحدى المجموعات الفنية الأقل إثارة للاهتمام في 2021. لذا، لم يكن من المستغرب لو كانت اختارت أحد الفنانين الآخرين المرشحين هذا العام.
أما لوحات باربرا ووكر، الفنانة البريطانية السوداء المخضرمة التي تكرم جيل ويندراش عبر رسومات جدارية، فكانت ستشكل خياراً شعبياً. عرضها للوثائق التي طلبت من المسنين الذين رسمتهم خلال فضيحة ويندراش يضفي عمقاً وقوة على أعمالها الجدارية الكبيرة المحترمة. لكن يبدو أن اللوحات نفسها كانت تقليدية ومن الواضح جداً أنها مقتبسة من صور فوتوغرافية، فلا تعتبر حقاً أعمالاً فنية.
وتضمين العمل الموسيقي “رافتس” RAFTS للفنان والملحن روري بيلغريم لأوراتوريو البوب الرائع الذي طور بالتعاون مع مجموعة من الشباب في باركينغ وداغنهام، يذكرنا بأيام جائحة كورونا الصعبة، حين كنا مدفوعين إلى العمل معاً نحو مستقبل يتسم بالرعاية والتشاركية والشمولية الإنسانية. ولمَ لا؟ ولكن الفن الذي يعتمد على النشاط الاجتماعي يتطلب الابتكار أو في الأقل أن يكون مثيراً للاهتمام بصورة لافتة من حيث الشكل ليبرر ضمه في مسابقة بقيمة ومكانة جائزة “تيرنر”. على رغم وضوح الفائدة الكبيرة التي استفاد منها الشبان المشاركون مع بيلغريم، إلا أن العمل نفسه الذي عُرض في فيديو في إيستبورن، لم يبدُ لي أنه يشكل نقلة نوعية في مجال الفن أو الموسيقى.
واستعانت غيسلين ليونغ بنظام تهوئة كامل من إحدى الحانات البلجيكية ومجموعة من ألعاب أطفالها لإنشاء تركيبتها الفنية الجديدة التي تنطوي على طابع رجعي يعيد إلى الأذهان عالم الفن قبل ظهور حركة الفنانين الشباب البريطانيين (YBA)، وتتميز بإيماءات شكلية دقيقة ومحدودة. تقوم ليونغ التي ولدت في ستوكهولم وتقيم في لندن، بتجميع الأشياء والمواد، ثم تزود المعارض الفنية بمجموعة من التعليمات أو ما تسميه “النوتات” التي تُستخدم لتنظيم معارضها الفنية. وعلى رغم أن هذا النهج قد يبدو جديداً، فإن فكرة الفن المبني على النوتات موجودة منذ الخمسينيات في الأقل، ولكن عمل ليونغ لم يقدم كثيراً سوى شعور بالإعجاب البسيط والتميز الثانوي الذي لم ينجح في جذب اهتمام زوار معرض إيستبورن في اليوم الذي زرت فيه المعرض.
وتُركت الساحة لعمل جيسي دارلينغ الحماسي وغير التقليدي حول حدود بريطانيا لإضفاء بعض الحيوية والطاقة على المعرض. فسواء كانت أعماله تتناول الحدود الوطنية – وتقع إيستبورن، بالطبع، على الحافة الجنوبية لبريطانيا – أو كانت ترمز إلى الحواجز المحيطة بموقع بناء محلي، فإن أسلوب دارلينغ المتحرر بالسلالم الملتوية والحواجز الطويلة يخلق طاقة كينيتيكية رائعة تجعل أعمال المتنافسين الآخرين تبدو ساكنة ورتيبة. وربما تشير الصناديق المملوءة بالخرسانة إلى بيروقراطية الهجرة، بينما تذكرنا الأعلام المعلقة التي تشبه إلى حد كبير أعلام الاتحاد، بأننا في عصر بريطانيا ما بعد “بريكست”.
وسواء قدم دارلينغ شيئاً جديداً فعلاً أو لا – وقد ذكرني عمله في بعض اللحظات بأعمال مايكل دين وهيلين مارتن في معرض “تيرنر” 2016 – فهناك إحساس بالإثارة التي يشعر بها الجميع والحماسة الشديدة في تعامله الحر مع الأشياء المادية. إنها صفة أساسية لخلق أي فن ذي قيمة، وليس فقط الفن العظيم. وهذه الصفة لا نراها بالقدر الكافي في وقتنا الحالي. لكن لجنة جائزة “تيرنر” لعام 2023، هذه المرة في الأقل، اتخذت القرار الصائب.