صهيب الأغبري
تتألف الأغنية من توليف الكلمة مع اللحن، سواء كان صوتًا بشريًّا للمطرب، أو صوتًا آليًّا للآلة الموسيقية إن وجدتْ، وبهذه العناصر يمكن تسمية هذا التركيب بالأغنية. وكمعظم ألوان الفنون فإن فنّ الأغاني يتكوّن من ثلاثة عناصر أساسية؛ هي الفنّان من مطرب وملحن ومؤلف، إلى العمل الفنّي التي هي الأغنية بذاتها في هذه الحالة، والثالث هو المتلقي، المستمع، أو الجمهور، وغالبًا ما يسلّط الضوء على العنصرين الأول والثاني، ويُتجاهل الثالث، بحكم وصفه بأنه مجرد تحصيل حاصل، أو لعدم إدراك تأثيره على العمل، بكامل ثلاثيته.
وفي هذه القراءة، محاولة لإدراك مدى تواجد الجمهور -العنصر الثالث- داخل هذا الفن، الذي ربما كان قد ظهر بوضوح في فنون، واختفى قليلًا في بعضها، ففي حين أنّ الفن التشكيلي يشرك الجمهور بشكل واضح في الأعمال التعبيرية على سبيل المثال، في تفسير هذه الأعمال المبهمة، وإضافة معنى لها، قد يكون مختلفًا عمّا رآه الفنان، وفي حين آخر فإنه يقتصر على دوره في تلقي رسالة الفنّان من خلال العمل، كما هي جاهزة وواضحة. وهذا ينعكس كذلك في الفنون الأدبية بكل أشكالها، وفي الموسيقى والغناء، إلّا أن إشراك الجمهور يختلف بين التفسير والإنتاج، أي بمعنى أن الجمهور قد يكون منتجًا مشاركًا للفنّان أثناء إنتاج العمل نفسه، أو مشاركًا نقديًّا للعمل بعد إتمامه من قبل المؤلف، والعمل على تفسير المنتج الفني.
في حالات كثيرة، يمثّل الجمهور دور المشارك النقدي لوضع تفسير للعمل، كما في الفن التعبيري مثلًا، وفي صور أخرى يتم هذا الشكل عن طريق إبداء التعابير المختلفة من مشاعر وأوصاف نتجت من هذا العمل. ومن ناحية أخرى، فمن النادر أن يشارك الجمهور الفنّان في إنتاج العمل، وهذا يظهر في أمثلة فنيّة جديرة بالاهتمام، ولكن عدّة اشتراطات تمنح الجمهور فرصة الاشتراك بإنتاج العمل الفني مع الفنان “الأصلي”، وهي أن هذه المشاركة لا تتطلب صفات خاصة، أو مهارات معيّنة وخصوصية بالفنان نفسه، أو لا تتعدّى مساحة الفنّان الأصلي نفسه من هذا الإنتاج.
ظهرت هذه المشاركات النقدية والإنتاجية من الجمهور نفسه في أمثلة تميزت بالعفوية، وكسمة الأغنية في الشرق كانت هي الأغنية اليمنية متشابهة معها في هذه الجمهورية التي تعلقت بأساس بناء هذه الأغنية منذ نشأتها، فهذا الفن كان في الشرق مسؤولية متقاسمة بين المؤدّي الفنّان والجمهور، في حوارية الإطراب والانفعال؛ لأن هذا اللون الفني قد اتسم بالإطراب، وسمّي طربًا، أي إنه مثير للمشاعر الإيجابية المختلطة، ومن ثَمّ هو محادثة بين المُطرِب والمطرَب، بين اللحن والانفعال، كما ينعكس هذا الفعل ورد الفعل في اللحن ذاته بين القرار وجوابه، وبين المقام ومشاعره، أي لا يجيد المطرب في مقطع إلّا وتسمع الرد من الجمهور لهذه الإجادة، وهذا ما لم تستطع الأغنية الشرقية الانفلات منه؛ كونها ولدت أساسًا في المجالس والدواوين ولم تكن وليدة المسارح، ومع انتقالها إلى المسرح ظلّ هذا القرب موجودًا بين الجمهور والفنّان، حتى إن شركات التسجيل المبكرة في مطلع القرن العشرين التي بدأت بنقل أجواء هذه الأغاني إلى الأسطوانات، كانت تستأجر جمهورًا افتراضيًّا يلقي الكلمات هنا وهناك بين فواصل غناء المطرب، لتكتمل هذه اللوحة بكل عناصرها.
والأغنية اليمنية التي نشأت بين المقايل في المجالس والدواوين، وحتى في المزارع والبساتين، وفي السفن وسط البحار، كانت في كل حالاتها تنسجم مع هذا السمة، بل وتؤكدها بكل قوة، ففي المقيل يجتمع بضعة أفراد يمضغون القات على مزاج الأغاني، ويؤدي الفنّان أغنيته بكل هدوء وتمايل وخفة داخل هذا الجو، وتتكوّن هذه الأغنية بتكوّن هذا المجلس، من وقت محدد ومزاج معين، وأيضًا من أفراده الجالسين بانسجام يلوكون أعواد القات الخضراء على خضرة الأغاني التي يستقبلونها بكلمات وترديد، وبثناء على المطرب بينها، بهدوء أو بصراخ أحيانًا، بين: “الله!”، و”أحسنت!”، أو أحيانًا بتكرار الأبيات التي غنّاها بإعجاب كمحاولات لإعادة ومضاعفة نفس المشاعر، وتنبيه الجالسين بها، ناقلين صدى انفجار مشاعرهم التي سببتها الأغنية فيهم، وبهذا يزيد المطرب أو ينقص في غنائه للأبيات، ويقرر أن ينفعل أو يسردها بوضع رتيب.
إنّ القرب الذي كان يغنّي به الفنان اليمني أغنيته داخل هذه المقايل من الجمهور، سمح له بالتنصت أكثر داخلهم، في دراسة انفعالاتهم الداخلية التي لا يستطيعون كبتها، وفي مراقبة انسجامهم، وبناء عليه فقد نشأت وتطوّرت هذه الأغنية بما يلائم هذا المزاج الذي نتج بشكل أساسي من المراقبة والفحص الدائم للجمهور عن قرب شديد، ومن ناحية أخرى، فقد كان هذا الجمهور نفسه هو الذي يوجّه المطرب بالإعادة، أو بقلب الإيقاع مثلًا من البطيء إلى المتوسط إلى السريع، هذا كلّه تمّ في الغالب داخل هذه المختبرات التي تفاعلت فيها الأغنية مع الجمهور عن قرب وباندماج.
إضافة إلى أن هؤلاء المستمعين كانوا يتعاملون بشكل مباشر في تهيئة الجو للمطرب، في البدء والانتهاء، وفي أثناء الغناء، فقد مثّل هذا الجمهور بالنسبة للأغنية أيضًا مصدرًا مهمًّا لحفظها وتناقلها، لما كانت الأغنية مقتصرة على الحفّاظ والمطربين، فقد كانت تكرر في المقايل، وبهذا كان دور الجمهور المنصت لها والمتفاعل معها، في حفظها وتناقلها، ويبدو هذا سببًا منطقيًّا للاختلافات والأخطاء التي يقع فيها المطربون في بعض الكلمات أثناء تناقلها بهذه الطريقة السمعية؛ لأنه من الواضح أن بعض متناقلي هذه الكلمات لم يكونوا على دراية كاملة بها، وخصوصًا مع اختلاف اللهجات من منطقة إلى أخرى.
وتندرج تحت كل هذه الممارسات الجماهيرية التي يتلقف من خلالها المستمعون هذا الغناء، من التهيئة للمطرب، التي قد تكون مبالغة أحيانًا في تجهيزه وتوفير احتياجاته، الضرورية والكمالية، من أوراق القات والمكان المناسب، وأحيانًا قد تقدّم له كؤوسًا من الخمر في حالات خاصّة، وحتى في تهيئة درجات الحرارة المناسبة له داخل المكان، إلى الإنصات له والتفاعل معه أثناء تأدية الأغنية. ويختلف هذا بالطبع في ألوان الغناء الأخرى التي ينشأ الغناء فيها بتفاعل جمهور الطبيعة المحيطة، في الفضاءات الواسعة، التي ينشأ فيها الغناء من ضرورة التسلّي أثناء العمل، والتعبير الإنساني بين عناصر الطبيعة الواسعة، فيختلف المفهوم هنا قليلًا، ولكن الجمهورية هنا قد تقتصر بين تبادل الأدوار بين الفلاحين، بين دور المطرب ودور المذهبجية (المرددين) ودور الجمهور بتناقل سلس.
ويظهر دور الجمهور في أساس الأغنية اليمنية كذلك في نواحٍ أخرى عديدة، وعلى صور فردية وجماعية، فقد يكون بعض أفراد مولعين بأداء فنان معيّن، يرافقونه دائمًا بشكل عفوي أو مقصود، في كل حفلاته، وذلك يشجّع هذا الفنان، خصوصًا أنه يغنّي ساعات طويلة، وبالإضافة إلى “بنزين” المزاج، فهو أيضًا يكون بحاجة لبنزين التشجيع، وإن كان بصورة مبالغة أحيانًا. هذا السلوك المستمر إلى اليوم، يتنوّع أيضًا في بنيته، وفي أنواع هؤلاء الأفراد “الجماهير” الذين يشجعون الفنان طوال وقت غنائه، وقد ينمّون علاقات شخصية أيضًا مع الفنان خارج إطار الأداء الفنّي.
إن علاقة الجمهور مع الأغنية اليمنية، قد لا تكون الحالة الخاصة في سياق مشاركة الجمهور في إنتاج العمل الفني، فقد ظهر هذا في بعض الأعمال منها الأغنية الشرقية كما ذكرنا، واشتهرت بهذا الطابع التفاعلي، ولكن ما قد يميّز الأغنية اليمنية أن جمهوريتها كانت شديدة الالتصاق بها، قريبة منها ماديًّا قبل أن تكون مجردة في المشاعر فقط، فالفنان وجمهوره على صلة متساوية ومتفاعلة وقريبة مع الأغنية، إنتاجًا وتفاعلًا، وهذا بحد ذاته ينتج لغة حيّة للأغنية غير جامدة، تتفاعل مع متلقيها بشكل أخص، للإحساس بالاشتراك في إنتاجها وخلقها، وهذا سائر إلى اليوم، وهذا ما حافظ على قرب هذه الأغنية من الإحساس والمشاعر فقط، وبعيدًا عن التنظير في الموسيقى والتأليف.
نقلا عن منصة “خيوط”