محمد عبدالوكيل جازم
مرّ عام على وفاة الفنان التشكيلي والمهندس المعماري ياسين غالب (1956-2022)، مرّ عام على وفاة هذا المبدع المتميز -بقدراته الإبداعية والتشكيلية والمعمارية الفلسفية- دون أن ينتبه أحد إلى موروثه الجمالي الذي لا يمكن المرور أمامه دون التوقف للتأمل والمعاينة، خاصة إذا عرفنا أننا بين يدي إنتاجه الغزيز، وإبداعاته المشبعة بالذاتية اليمنية، سنعرف الكثير ونتعلم ما كنّا نجهله عن تاريخ اليمن وتفاصيل أيامها.
وإذا كانت أهمية الإنسان تقاس بما خلفه من أثر، فإنّ ياسين قد خلف لنا الكثير، حيث ذاع صيته بوصفه فنانًا تشكيليًّا حين شارك في تأسيس جماعة الفن الحديث، وأسس بمعية رفيقيه؛ أمين ناشر، ومظهر نزار، جاليري حدة. أُغلِق الجاليري بعد ثلاث سنوات إلا أن أثره الفني والتشكيلي اللوني ظل سنوات طويلة حتى اليوم.
وقد رأى بإدراك فنيّ أن هذا لا يكفي، فساهم مع آخرين في تأسيس هيئة المدن التاريخية بداية التسعينيات، وناضل من أجل هذه القضية لعلمه أن الوعي الأثري في بلادنا لا يزال في حدوده الدنيا، ولم يطمئن فقيدنا فذهب ليؤسس مع رفاقه وحدة التراث في الصندوق الاجتماعي للتنمية منتصف التسعينيات.
تعرفت على إبداعات ياسين الفنية في وقت مبكر من حياته، أستطيع أن أقول إن ذلك تم في مطلع التسعينيات عبر حضوري لمشاهدة أحد المعارض الفنية، وكانت لوحات ياسين تزين المجلات والصحف اليمنية دائمًا، وهو الأمر الذي كان يُبقي ياسين في الذاكرة، وبسبب من امتلاكه لحسّ الفيلسوف، فقد كان يجذبني حديثه وهو الخبير في التاريخ المعماري لبلادنا والخبير في التاريخ البنائي للهجة العامية وصلتها باللغة الحميرية القديمة. عرفت منه -أيضًا-اهتمامه وتوثيقه لقاموس لغوي خاص، يتتبع من خلاله تاريخ تطور المفردات ومعانيها في اللهجة، وكيف تطورت المفاهيم والدلالات، وهذا حسب تقنية يجيد عرضها هو وحده، حسب فلسفة خاصة اختطفها من علاقته الحميمة بالآثار كمهندس معماري فطن؛ زار معظم المحافظات اليمنية.
في عام 2003، جمعني به منزل القاصّ والفنّان التشكيلي عبدالفتاح عبدالولي، الذي يتشابه معه في الاهتمامات، وفي إحدى اللقاءات كنت عائدًا من القرية ولدي فيلم كامل -صور فوتوغرافية- عن الدُّور القديمة التي وثقتُ لمعمارها المغاير، وكان معظم الصور التي التقطتها تتحدث عن “المُخَرجَات” المعلقة، وهذا الشكل الهندسي عبارة عن بروز للخارج من داخل الحمامات، ويوجد في الطابق الثاني أو الثالث أو الرابع في خلفية الدار، وحين شاهد ياسين مجموعة الصور أخبرني أنّ هذا الهاجس فكّر فيه من قبل، وهو يشتغل عليه أيضًا.
ومن هنا نستطيع القول إن فقيدنا لم يكن يكتفي بالعبور الكريم على الآثار، وإنما يوظف هذا المرور بما يتوافق مع موهبته الاحترافية عالية الدقة، وكان يضيف على ذلك لوحات فنية مصحوبة بهالة من القدسية للمكان المرتبط بجلال التاريخ وعظمته، وفي مجمل أعماله التشكيلية نجد هذا الركون إلى مشهد الحياة المتواري الذي لا يتركه ياسين لغموضه وضجره، وإنما يذهب إليه ليبعث فيه الحياة، يحاوره ويحركه و”يُنَغْبِش” في تواريخه وأيامه وعلائقه، وسوف نكون وثيقِي الصلة بتجربة ياسين إذا قلنا إنّ الأثر العميق لحضوره العلمي هو في قدرته على غرس المنهجية داخل مهنته التي تحولت معه من مجرد وظيفة إلى عمل فني راقٍ، وهذا الأثر التنويري لو ذهب أحدنا إلى هيئة الآثار بصنعاء، سيجده ماثلًا عبر المهندسين الشباب الذين حين زرت معظمهم وجدتهم يتساءلون عنه لمعرفتهم عن علاقتي به، وأخبروني أنهم يفتقدونه كثيرًا.
ينطلق ياسين في فنه من قول شهير للجاحظ تحدث فيه عن المعاني حيث قال إنها متروكة في الطرقات، وهذه المقولة فتحت ذهن ياسين الفنان ليغرم كثيرًا باليمن وكل ما يتعلق بها، فالأشياء التي يقذف بها اليمنيون من النافذة، يردها ياسين من الباب، حتى إنه أصبح من كبار جامعِي “الشقادف والشقالح والصحون والدسوت القديمة” التي رأى فيها ما لم يره الناس، وهذه هي مهمة الفنان الحقيقية؛ إبراز الجمال من المادة التي يظنها الناس قبيحة، كما نريد وليس كما يفرضه الآخرون علينا.
لم يغادر ياسين اليمن بحثًا عن مكاسب شخصية، ولكنه نفذ بجلده من المتنفذين الذين لم يستطيعوا أن يتفهموا أن ياسين لا يعمل كموظف، ولكن كفنان اعتجن عطاؤه بكامل التراب اليمني.
إنّ هذا الفعل الجمالي الذي مارسه ياسين ممهورًا بحبه لعمله وحبه لفنه دلّ بقوة على أنه إنسان ملتحم بإنسانيته، وفنان ملتحم بفنه؛ مدركًا نقاط الاشتباك التي تجمع المسارين، آخذًا بعين الاعتبار نقاط التوافق والالتقاء، وليس نقاط الافتراق. ولعل أشدّ ما كان يعاني منه هو تدخل غير المختصين في مجال ترميم الأمكنة الأثرية، ونجد ذلك في رسالة لأحد العاملين في نفس الحقل: “نعم، هؤلاء فلقوا قلبي، وأكثر ما يغيظني فيهم تعاطيهم السطحي غير المبني على عمق معرفي، فلو قرَؤُوا فقط ميثاق البندقية لأغناهم عن الارتجال في الترميم، ولو قرَؤُوا ميثاق واشنطن لأغناهم عن الارتجال في النسيج العمراني، ولو اطلعوا على ميثاق لاهور لعرفوا ما معنى المدينة الإسلامية والتراث الإسلامي، ولوا عرفوا ميثاق أبلتون لازدادوا يقينًا بأن الحفاظ علم وليس تزييف”، وهنا مربط الفرس في خلاف ياسين مع الرؤية غير العلمية لمسألة ترميم الآثار في بلادنا التي يتدخل فيها عادة غير المختصين.
وللقارئ أن يعرف أن مبعث كتابتي عن ياسين هو من باب الوفاء لمثل هذه الشخصيات التي أحبت الناس فمنحتهم كل ما تملك، ولعل تذكر مآثر مبدعينا يُحيِي ضرورة تخليد المواقف، ومن ثم إعطاء كل شخصية حقها في تسليط الضوء على عطائها. تذكر مثل هذه القامات يرمم التشققات الموغلة في الروح، ويخيط الجروح الغائرة، ويروي عطش العقول المتعطشة للمعرفة، وهو أيضًا من باب إرساء قيم الإشادة بمثل هذا النموذج البشري الذي عطر بمروره أرضنا وترابنا وجبالنا وسهولنا، وحتى لا نكون كما قال البردوني:
فوج يموت وننساه بأربعة
فلم يعد أحد يبكي على أحد.
وفي تصوري أنّ الإضافة التي يمكن أن أقولها هي أنني أصبحت أنظر لياسين -هذا الاسم المأخوذ من إحدى سور القرآن الكريم- أنه يمثل الصورة البهية للإنسان النموذجي في كل شيء، النموذج الحي والمتحرك لإنسان الحياة المنشودة في مجتمعاتنا التي تفتقر اليوم إلى القدوة.
والجزء الأخير من معرفتي بياسين غالب، تم في مدينة القاهرة، وكان وجود ياسين في القاهرة يعني أنني سأتمكن من الاستماع إلى حكايات جديدة وأحداث جديدة وقاموس لغوي مشترك يتقنه ياسين جيدًا بحكم خبرته الطويلة في تأمل الحياة. لم يغادر ياسين اليمن بحثًا عن مكاسب شخصية، ولكنه نفذ بجلده من المتنفذين الذين لم يستطيعوا أن يتفهموا أن ياسين لا يعمل كموظف بل كفنان اعتجن عطاؤه بكامل التراب اليمني. غادر ياسين اليمن بعد أن أعدت له الفخاخ والمصائد؛ “ففي الأرض منأى للكريم من الأذى…”، ولم تمضِ سوى أسابيع له في مصر حتى عرف بعض المهندسين المصريين بأهمية الموهبة التي يمتلكها فقيدنا، ولكي يتم الاستفادة من خبرته، تم استضافته في النوبة لمدة 13 يومًا وعلى الفور نزل إلى المواقع الأثرية وقدّم تصورًا عن كيفية ترميمها والحفاظ عليها، ووثق ذلك بصور شاهدناها في تلفونه وكانت لديه رؤية عن تشابه التراث بين اليمن والنوبة، لا أدري هل استطاع توثيقها، وقد عبر عن ذلك برسالة لأحد المهندسين من أصدقائه، قائلًا: “هنا الناس تقدر الخبرة والتعاطي بعمق مع التراث، تبهرهم الأفكار ويشدهم التناول التجذيري للمعرفة، وأصحابنا يسخرون من ذلك أو يهابون الخوض في الأعماق لاستنباط القيم الحقيقية للتراث، وليس القيمة النفعية المحضة، وهذا الفرق بين المختصين وغيرهم”. وفي نفس الرسائل الموجهة لأحد المهندسين، قال متحدثًا عن تقدير المصريين لموهبته: “على العموم، خدمة التراث الإنساني مهمة إنسانية، وإذا كان وطنك الأم لا يقبل، فقد يقبل وطنك الإنساني الأكثر رحابة والأوسع رؤية”. وفي رسالة أخرى، قال: “أنا منشغل بعمل خاص بتراث النوبة، هناك عناصر شبيهة باليمن رغم البيئة الحارة”. بعد لقائي بياسين حال عودته، شاهدت الكثير من الصور التي حملها من هناك وبالفعل اطلعت على القاسم المشترك، وعاد مرة أخرى إلى معاينة مصر القديمة، وحمل تلفونه صورًا كثيرة للأمكنة الأثرية الإسلامية، وكان في نيته عمل دراسات ومقارنات.
نقلاً عن منصة “خيوط”