· محمد فائد البكري
” هدفي ضبط التناول المنهجي للفن الموسيقي في اليمن”
الفنان الباحث الناقد الموسيقي جابر علي أحمد
ما قبل القراءة :
من الملاحظ أن أولئك الذين يقفون على مفترق الطرق لجسر الهوة بين الأجيال والآمال، هم أكثر الناس عُرضةً لعدم الإنصاف، برغم ما يبذلون من جهود استثنائية وما يبدون من المثابرة والإرادة والتصميم، وما يضعون من أُسس في بناء وعي مجتمعاتهم وأوطانهم. وهم أنأى الناس عن المزايدات والمكايدات وأكثرهم تساميا وترفعا عن المعارك الصغيرة، وأعمقهم تعبيرا عن نبل الهدف ووضوح الرؤية.
وجابر علي أحمد أحد أولئك التنويريين الذين جسدوا حب المعرفة بكل أناة وتواضع، وجسدوا حب أوطانهم بكل وعي وإخلاص ونكران للذات.
والكتابة عن جابر علي أحمد ليست يسيرة؛ لسعة ما كتب ولتعدد ما أثار من قضايا. والرجل فنان مثقف تتجلى ثقافته النوعية في ثنايا كتاباته، وهو ناقد باحث طوى ما يزيد عن ثلاثين عاما من البحث والكتابة في قضايا الموسيقى، والنقد الموسيقي، الذي لم يشغله عن الغناء والتلحين اللذين هما في صميم موهبته، وفي واجهة علاقته بالحياة.
وهذه القراءة تدرك أن ما قام به من تنفيذ لرؤى تجديدية في الموسيقى- كما فعل ببعض ألحان جابر رزق- وما قدمه من قراءات علمية وتحليلية لموسيقى عدد من أعلام الغناء في اليمن، وما قام به من جهود بحثية في تأريخ الموسيقى وتأصيل بعض المصطلحات، وتصويب بعض الطروحات الشائعة عن الموسيقى، ومعالجة بعض المفاهيم علميا ، كل ذلك بحاجة إلى متخصصين في علوم الموسيقى.
وفي ضوء كل ذلك ستحاول هذه القراءة أن ترصد بعض رؤاه في النقد الموسيقي، فذلك التعدد والاتساع بحاجة إلى قراءات متعددة ودراسات متأنية، ومقاربات على درجة من التخصص والعلمية.
وفي خلاصة مناقشته لدور الموسيقى في بناء الإنسان من الداخل، وتنمية وعيه وإثراء وجدانه، يؤكد على” أن قضية الاهتمام بالثقافة الموسيقية ليست مسألة ترفيه كما يحلو للبعض أن يزعم بل تدخل في صميم عملية التنمية الشاملة التي يسعى إليها كل مجتمع حي” ( حاضر الغناء في اليمن:109).
واستشعارا لخطر التساهل والإهمال لدور الموسيقى في حياتنا، يرى أن ” الواجب يحتم قرع ناقوس الخطر وهو أمر غير ممكن إلا بولادة نقد موسيقي حقيقي، على أن هذا النقد يجب أن يخرج من رحم معاناتنا الموسيقية حتى يتمكن من النمو الطبيعي، والالتحام بالمعطيات العامة ليستطيع القيام بدوره على نحو يلبي التطلعات المشروعة في ثقافة موسيقية ترفع من مستوى الذوق العام” ( من المشهد الموسيقي: 38).
جابر علي أحمد الأسطى:
ولد الفنان اليمني المعروف جابر علي أحمد عام 1952م، وبقوة الموهبة واجه قسوة الحياة التي نشأ فيها. وثابر واجتهد وتفوَّق ونشط سياسيا وثقافيا وموسيقيا.
بعد سنوات الدراسة الإعدادية والثانوية، بدأ تكوينه العلمي بدراسة الفلسفة ثم العودة إلى دراسة الموسيقى؛ فحظي بتكوين علميٍ خاص منحه معرفةً ودرايةً واتساع أفق. ومكَّن موهبته الفنية التي ولد بها من أن تكون متوفرةً على الوعي بما تُنتج، وما تتلقى.
له العديد من الأغاني التي يعرفها الجمهور اليمني بالإضافة إلى الألحان التي قدمها لغيره من الفنانين، وله الكثير من الدراسات والأبحاث والمؤلفات التي أسهم بها في شأن الموسيقى.
من أشهر مؤلفاته في البحث والنقد الموسيقي:” حاضر الغناء في اليمن” و “من المشهد الموسيقي اليمني” “تيارات تجديد الغناء في اليمن”. بالإضافة لكتاباته المنشورة في المجلات والصحف.
وهو بموهبته الفنية وخبرته الحياتية وذائقته المُدرَّبة وثقافته العالمة ورؤيته العلمية كان ومايزال عبر الصحافة والندوات والمقابلات التلفزيونية يمارس النقد الموسيقي والبحث والتثقيف ورفع الوعي بأهمية الموسيقى وضرورة نشر الفكر الموسيقي.
وفي سبيل ” تفكير موسيقي مستنير” بحسب تعبيره، ناقش الكثير من قضايا الثقافة الموسيقية، وقدَّم رؤى نقدية لمشكلات الثقافة الموسيقية في اليمن، كما قدّم رؤى منهجية لتطوير الموسيقى وتنمية الموروث الموسيقي، وحمايته من التشويه والعبث وسوء الاستخدام.
وكان ومايزال حريصا على محو الأمية الموسيقية. مهموما بدور الموسيقي في الرقي بوعي المجتمع، وفي تحقيق مستوى من الإدراك الواعي لمعنى الحياة.
ما الحاجة إلى النقد الموسيقي؟
تحت هذا السؤال يمكن للقارئ أن يجمع الكثير من الطروحات التي بثها جابر علي أحمد في كتبه ومقالاته، وعبَّر عنها مستشهد بقول البردوني: نحن أكثر حاجة إلى من يرينا عيوبنا أكثر ممن يطري إحساسنا”.
وأردف قائلا: ” هناك من الشواهد على أننا في حاجة إلى النقد في كل شيء. ذلك أن كل زاوية من زوايا حياتنا محتاجة إلى التقييم بغية تحقيق التوازن الذي لازلنا نفتقده والذي من مظاهره تلك الاختلالات الخطيرة في بنياننا العام” (من المشهد الموسيقي في اليمن: 36).
وفي موضع آخر أشار إلى ” انه من غير المعقول أن تكون موسيقانا بعيداً عن مركز الدراسة المنهجية حتى الآن فهذه القضية على خطورتها ظلت خارج اهتمامات الحركة الثقافية اليمنية. وكان لهذا تأثيره السلبي على الفنانين والمثقفين وعامة الناس، حيث باتت تسود في الحياة الفنية مفاهيم مضطربة ساهمت في ميول ذوقية سطحية أدت من بين ما أدت إلى حاضرٍ موسيقي يبعث على الرثاء، مما جعل حركة الغناء اليوم تقف في ذيل قائمة العناصر الثقافية الوطنية” (تيارات تجديد الغناء:11).
ونلحظ في هذه العبارة أنه يشير كثيراً إلى أن الثقافة الموسيقية مهمة جداً في إثراء وجدان الشعوب وفي تحقيق الوحدة الوطنية، وفي تصحيح نظرتنا إلى بعضنا بعضاً. بل وفي تسويق كثير من مفاهيمنا وتقديمها للمجتمعات الخارجية خارج حدود الجغرافيا.
وهو مدفوعا بغاية مُثلى يكشف عن جانب مُفكِّر موسيقي يمارس دورا ثقافيا لا يقتصر على حقل الموسيقى، فهو يرى أن دور الموسيقى ينعكس على حياة الإنسان حتى فيما لا ننتبه له، وفي هذا يطرح ما لاحظه من علاقة الموسيقى بالسياسة، وفي ذلك يقول” قد يكون من اللافت للنظر والداعي للحيرة في آنٍ معاً تلك الازدواجية الغريبة بين التفكير السياسي المتقدم نسبياً والتفكير الفني المتخلف عند قطاع واسع من السياسيين المستنيرين، وتتضاعف الحيرة عندما يصادف المرء هذه الازدواجية بين التفكير الأدبي الجمالي العميق وبين التناول الموسيقي السطحي عند فئة الأدباء والمثقفين عموماً ” (تيارات تجديد الغناء: 11).
وفي حقل الموسيقى وعلاقتها بالشأن العام، وانطلاقا من إدراكه أن ” في بلادنا توجد هوة عميقة بين الفنان والنقد الموسيقي سببها الأمية الموسيقية المنتشرة في بلادنا بشكل مريع.” ( تيارات تجديد الغناء في اليمن: 252).
أكد جابر علي أحمد على أنه ” وفي مثل حال انتشار الأمية الموسيقية في مجتمعنا، يتعين على الدارسين الموسيقيين مواجهة هذا الخطر ليس كاختيار فحسب وإنما كضرورة يمليها عليهم وعيهم بنتائج استمرار خطر كهذا”( تيارات تجديد الغناء: 254).
وفي موضع آخر بدت عبارته أكثر تأكيدا على دور دارسي الموسيقى، إذ يقول: ” لابد أن يضع الدارسون في محيط الاهتمام ضرورة التصدي لكافة المفاهيم الخاطئة على الصعيد الموسيقي ومقاومة التناول الصحفي المُسف عبر المساهمة في الكتابات الموسيقية التنويرية منها والتقييمية.” ( تيارات تجديد الغناء: 253).
وتأكيده على ضرورة أن يكون لدارسي الموسيقى دورٌ هو جزءٌ مما مارسه شخصيا، وكلَّف به نفسه، وقد عبَّر عنه في حوار صحفي أجراه معه فهد علي القباطي، قائلا:” لم أكن أفكر في يوم ما أن أكون باحثا موسيقيا، ولم أكن أفكر أن أكون ناقدا، ربما دراسة الفلسفة لعبت دورا إلى جانب أن الساحة الثقافية بحاجة إلى تناولات نقدية تتميز عن التناولات الصحفية الشائعة التي مع الأسف تسيء إلى النقد وبالتالي تزيف الوعي”.
وفي أكثر من موضع في كتبه، وحواراته أشار إلى أن ما يقوم به من نقد موسيقي ومن كتابة في هذا الجانب محاولة للتأمل في قضايا الغناء اليمني بغرض تصويب وتصحيح وإعادة توجيه كثير من الثقافة الفنية، وقد سرد في كتابه الهام تيارات تجديد الغناء في اليمن عدة أسباب دفعته للحديث عن الغناء في اليمن أورد منها: ” أن الغناء اليمني وخاصة التقليدي منه لم يخضع للدراسة والتحليل إلا فيما ندر وقد تسبب له ذلك بأن يظل عرضة للتناولات السطحية والإنشائية التي نأت به عن دائرة المعالجات العلمية المنهجية. والأمر الثاني أن الغناء في اليمن له من التنوع والثراء والعمق التاريخي ما يؤهله لمحل الدراسات الموسيقية كمحور مهم في الغناء العربي. (تيارات تجديد الغناء:11).
أما الأمر الثالث فقد عبر عنه “بأن التجارب التجديدية الغنائية كانت وما تزال في أمس الحاجة إلى رصد وتقييم منهجيين لغرض الكشف عن الإيجابي والسلبي في تلك التجارب، ومن ثم المشاركة في تنضيجها بما يخدم تطلعنا إلى حركة فنية يمنية مستنيرة”(تيارات تجديد الغناء: 11).
ولهذا ولغيره من الأسباب عبَّر عن ذلك قائلاً:” أجدني مدفوعاً في التأمل في قضايا الغناء والكتابة عنها على أمل المساهمة في إرساء أسس صحيحة للتناول المنهجي الموسيقي الذي بدأ يتسلل إلى حياتنا الثقافية على استحياء شديد” (تيارات تجديد الغناء:11).
النقد الموسيقي والإبداع :
كثيرا ما شرح وفسّر علاقة النقد الموسيقي بالإبداع الموسيقي، وما يترتب على ذلك من التقييم والتطوير، وفي ذلك يقول:” النقد الموسيقي حلقة هامة في سلسلة الإبداع الموسيقي. فلكي تتجذر وتتأصل تجربة موسيقية ما أو اتجاه موسيقي معين ولكي تتعرى الجوانب السلبية في أية تجربة موسيقية أو أي اتجاه موسيقي من باب المحافظة على نقاء تلك التجارب وصيرورتها فلابد من أن يمارس النقد الموسيقي دوره. وبهذا المعنى يصبح النقد شيئا له أهميته في كل جوانب حياة الإنسان، ذلك أنه بدون النقد تتراكم الأخطاء ويهدد المجهول مصير البشر” ( تيارات تجديد الغناء: 255 ).
وترسيما لأبعاد العلاقة بين النقد والإبداع، يقرر أن جزءاً من دور الناقد الموسيقي يتوقف على العلاقة بالفنان، وفي ذلك يقول: ” والفنان بعدٌ هام في تفعيل النقد الموسيقي وبادى ذي بدء يبدو أن الفنان معني بالسعي نحو معرفة كل ما من شأنه تعميق وعيه الجمالي، ولأن الناقد يأخذ بعين الاعتبار دائما تشخيص العمل الفني من حيث التعرف على تفاصيله الداخلية والخروج بحكم ما فإن الفنان ” صاحب العمل” محتاج إلى هذا النوع من التعاطي النظري مع عمله لكي يتبين مواطن الضعف والقوة فيه خاصة وأن الفنان أثناء عملية الخلق الفني يكون واقعا تحت تأثير نفسي وذهني من نوعٍ خاص يحول دون سيطرته العقلية الكاملة على علاقات مفردات العمل”( من المشهد الموسيقي في اليمن:39).
ولأن علاقة الناقد بالفنان تقوم على التكامل، وينبغي لها أن تتوفر على درجة من التواصل والتفاعل، يقول: “وعلى الناقد أيضا أن يكون المرآة التي يرى فيها الفنان عيوبه نقاط ضعفه لكي يتلافاها تلبية لرغبته الداخلية في إحداث مزيد من تطوير أدواته الإبداعية.” ( من المشهد الموسيقي في اليمن: 38).
وفي موضعٍ آخر، يناقش دور الناقد الموسيقي، وأهمية أن يمارس دورا منتجا في علاقته بالفنان الموسيقي، ويوجز ذلك بالقول: ” وبهذا يقدم الناقد ما يشبه الدليل النظري للعمل أمام الفنان مما يساعده على تعقل تجربته الشخصية بصفتها حامل ذلك العمل.” ( من المشهد الموسيقي في اليمن:39).
النقد الموسيقي والتلقي:
لا يخفى إن سلطة الجمهور على الإبداع تلعب دوراً مؤثرا في فاعلية الإبداع وديمومة أثره. وتبدو سلطة الجمهور على الإبداع الموسيقي في اليمن إحدى معوقات تطوير الموسيقى، إذْ يلجأ كثيرٌ من مبدعي الموسيقى إلى إرضاء الجمهور وترديد ما ألفه، واطمأن إليه من موروثاته الفنية، وهي حالٌ من شأنها أن تؤدي بالفن عموما إلى التكرار والاجترار وتمنعه من التجدد ومن اجتراح آفاق رؤية غير تقليدية.
وهو أمرٌ تنبه له جابر علي أحمد ولفت إليه النظر، وناقش أسبابه ودوافعه وتداعياته السالبة لوعينا بدور الموسيقى، وفي هذا السياق فرّق بين موسيقى التطريب وموسيقى التعبير، وما يترتب على ذلك من إمكانية التجديد والتطوير. أو سوء الاستهلاك للموسيقى. ونجد اهتمامه بضبط العلاقة بين دور الناقد الموسيقي وفهمه لمزاج الجمهور، يناقش قضايا عديدة تتعلق بمسألة التلقي، لعل من أبرزها قضية التراث والتجديد.
ويمكن للقارئ أيضا أن يرصد ذلك في مناقشته للموسيقى والعادة، وموجهات التذوق الموسيقي، وملاحظات حول الخطاب الموسيقي الشائع، ومفهوم التطوير الموسيقي، والموسيقى بين الهواية الاحتراف، والتجربة الشعورية الموسيقية.
وكذلك تساؤلاته عن ترفيه الموسيقى، وهل الموسيقى للإمتاع؟، وماهية لغة الموسيقى، وأهمية التربية الموسيقية، والظاهرة الفنية والظاهرة الإعلامية، وموسيقى الطفل، وأغاني الأطفال…الخ.
وكثيرا ما أشار إلى أن دور الناقد الموسيقي لا يتوقف عند علاقته بالفنان، وتقييم الإبداع الموسيقي، فالأمر يتعدى ذلك إلى رفع وعي الجمهور بأهمية الموسيقى، وتدريبه على التذوق الموسيقي الرفيع. وتنمية استعداده لتلقي الجديد والانفتاح على المختلف وتقبُّل المغاير.
وذهب إلى أبعد من ذلك في استحضار القارئ في وعي الناقد الموسيقي. وما يتوجب على الناقد أخذه بعين الاعتبار في سياق هذه العلاقة؛ وفي هذا يقول:
: “والناقد في حاجة لأن يرتبط بالقارئ في صداقة مخلصة يستطيع عبرها الأخذ بيده إلى الأعمال الفنية الرفيعة ليمكنه من التعامل معها على نحو يرفع من تعاطيه الروحي. والناقد لا ينجح في ذلك إلا إذا تمكَّن بكتاباته أن يلهم القارئ إلى مواطن الجمال في العمل الموسيقي، وأن يفجر في نفسه الرغبة في ارتياد آفاق التذوق الحقيقي وذلك عبر أسلوب تعبيري يفوح منه عبق المعرفة ويرتسم على محياه دفء إنساني حقيقي يزيح كل الحواجز التي قد تنتصب جراء بعض الصعوبات” ( من المشهد الموسيقي في اليمن: 38).
ويوضح ذلك أكثر في سياقٍ آخر قائلا: ” الحقيقة أن الناقد الموسيقي يقوم بدور ريادي في مجتمعه، فهو يوجه كلا من الفنان والجمهور في سبيل مزيد من إثراء الحياة الموسيقية إثراء يرفع الذوق العام ويعمق ارتباط الموسيقى بالقيم السامية على الصعيدين المعنوي والجمالي، والناقد الموسيقي من أجل ذلك يقوم بتحليل العمل الفني الذي يتناوله بالتقييم ويفرز العناصر الموسيقية المرتبطة بتقاليد العصر من العناصر التي ابتكرتها الروح الخلاقة للفنان، ويكشف عن سر العلاقة بينهما ويسلط الضوء بعد ذلك على الصلة بين تلك العناصر والمثل الأعلى الذي يتضمنه العمل. ولعل جهدا كهذا لا يستطيع النهوض به إلا من أهّل نفسه له”( تيارات تجديد الغناء في اليمن: 258).
من هو الناقد الموسيقي؟:
تحت هذا السؤال ناقش جابر علي أحمد آراء بعض الفلاسفة والمنظّرين الجماليين، وأشار إلى أن ” الحديث عن النقد يسحبنا إلى الحديث عن النقاد، حيث لا نقد بدون أفراد ينهضون به. ورغم صفة الناقد النخبوية إلا أنه لا يظهر نبتا شيطانيا وانما يتناسل من بيئة تبلورت فيها الشروط الضرورية لفعل كهذا.” ( تيارات تجديد الغناء:243).
ولخَّص ذلك بقوله: ” يمكن القول بأن أغلبية الذين يمارسون النقد الموسيقي متفقون على هذه المبادئ: أولا: أن تكون لدى الناقد خبرة سابقة، وأن يمارس التأليف الموسيقى أو التلحين أو الأداء عزفا أم غناء.
ثانيا: أن يلم بقواعد النقد الخاصة وبالعلوم الموسيقية بصفة عامة.
ثالثا: أن يكون لديه معيار أو نموذج معين يسترشد به في أحكامه.
هذه هي جل المبادئ التي يتحدد على ضوئها الناقد الموسيقي، ومع هذا تبقى هناك بعض النواقص، فامتلاك الناقد لناصية اللغة شيء حيوي جدا، والثقافة العامة أيضا بالنسبة للناقد أمر لا مفر منه “( تيارات تجديد الغناء: 257).
وليفرق بين الكتابة النقدية وما يشاع في الصحافة باسم النقد الموسيقي أو ما يوصف تجوزا بالصحافة الفنية، أشار إلى أن” النقد هنا ليس مجرد تناولات صحفية كالتي تمتلىء بها صحفنا ومجلاتنا بقدر ما هو خلاق يستهدف تبصير الناس بمواطن الضعف في فعلنا الموسيقي لغرض وضع آلية الإنتاج الموسيقي في نطاقها الحقيقي. ولعله لغني عن البيان القول بأن حياتنا الموسيقية تتطلب وقفة جادة تعيد إليها رونقها” (من المشهد الموسيقي في اليمن: 36).
وحتى لا يلتبس دور النقد الموسيقي بما تمارسه بعض الكتابات الصحفية من تقولات، يقارب الفكرة بذكر عدد من الضوابط للنقد الموسيقي فيقول: “النقد الموسيقي ليس معولا للهدم ويتعين على المرء الراغب في ولوج هذا الميدان تجنب كل أشكال التعالي وتحاشي التشنج والابتعاد عن نزق إملاء التعليمات. والناقد في حقيقة الأمر محتاج لكل ذلك مادام يفترض به التمتع بالذوق والثقافة والشجاعة الأدبية والقدرة على التعبير” (من المشهد الموسيقي اليمني: 38).
وفي موضع آخر يبسط القول فيما يقوم به النقد من تصحيح للمفاهيم الخاطئة عن الموسيقى يؤكد أن المعرفة شرط، ويقول:” على أن النقد الذي من شأنه الاضطلاع بهذه الوظيفة التصحيحية هو ذلك الذي يمخر عباب الحياة متسلحا بالمعرفة والرغبة الصادقة في إحداث التغييرات الهيكلية اللازمة للبناء الاجتماعي، ” (من المشهد الموسيقي في اليمن: 36).
خلاصة:
لا يمكن لمن يقرأ مؤلفات وكتابات جابر علي أحمد، ويتتبع نشاطه الفني والثقافي ودأبه وتفانيه وإصراره على نشر الفكر الموسيقي، إلا أن يقر بأن الرجل يشكل ريادةً في النقد الموسيقي، ويجسد مثال المثقف النابه، والإنسان المسؤول.