جاكوبو كاروتشي، «1494 – 1557»، من الأسماء الخالدة في تاريخ الفنون العالمية، فذلك الرسام الإيطالي، هو صاحب أسلوبية مميزة في عصر النهضة، صارت مدرسة، وذات أثر كبير بالفنانين في عصره ومن بعده، هو من أبناء المدرسة الفلورنسية، واشتهر برسم الوجوه، حيث أعلنت أعماله عن تحول عميق في الأساليب المتبعة في عصره.
منعطفات كبيرة مر بها كاروتشي، أهمها ذلك اللقاء الذي جمعه بأسطورة عصره ليوناردو دا فينشي، ثم صحبته للرسامين المشهورين: ماريو ألبرتينيلي، وبييرو دي كوزيمو، وأخيراً مع أندريا ديل سارتو، في عام 1512، أنتج كاروتشي، رسوماته داخل فلورنسا وما حولها، وغالباً ما كانت تدعمه عائلة كبيرة تدعى «ميديشي»، وتنقسم حياته إلى مرحلتين، الأولى لحظة البدايات، والتي اقتربت فيها أعماله من أسلوب معلمه «أندريا ديل سارتو»، وإلى المبادئ الفنية للنهضة في أوائل القرن السادس عشر، أما في أعماله اللاحقة، فقد تخلى عن البيئة المعمارية الواضحة، التي بُنيت بعناية في قطع فنية سابقة، وذلك لصالح بيئة حضرية لا تنهض على التخطيط المعماري، بل مفتوحة على أساليب مختلفة.
لوحة «المطرد»، التي رسمها كاروتشي، بألوان الزيت على الخشب ثم القماش في الفترة بين 1528 1530، تعد من أغلى القطع الفنية العالمية، في أيقونة من الأيقونات البديعة، التي ربما لا تقدر بثمن، والعنوان يحمل دلالة خاصة، فالمطرد، هو سلاح أبيض يتركب من رمح وفأس ويستخدم في الحروب، وفي ذلك إشارة إلى أن الشخص، الذي قام برسمه الفنان ينتمي إلى فئة الفرسان والمقاتلين، واللوحة هي من الأعمال التي تقف شاهدة على تطور أسلوبية كاروتشي، في مرحلة من منعطفات حياته الإبداعية التي قدم خلالها الكثير، فقد اهتم برسم الوجوه وإظهار تعبيراتها بصورة خاصة، وإبراز المشاعر الإنسانية في جميع الأحوال في لحظات السعادة والحزن، والفرح والغضب، وغير ذلك من تلك التقلبات في الأحاسيس.
ولعل أكبر الانتقالات في أسلوبية الفنان هو ما حدث بعد غزو روما، فكان لذلك الحدث أثر كبير في طريقة رسم الأشكال، وتميزت أعماله في تلك الفترة برسم المسخ أو (الملعونة)، والأجساد المتطاولة، وربما كان لشبابه أثر في براعة رسم الوجوه الكالحة، فقد عاش يتيما وكئيبا، وانعكست مشاعره في تلك الفترة على أسلوبه في الرسم، لكنه بالمقابل أراد التخلص من حمولة تلك المشاعر السالبة فرسم أشكالا ووجوها مستبشرة، وربما ذلك ما فعله في هذه لوحة «المطرد» التي جمعت بين الرصانة والجدية وتقف شاهدة على تلك المقدرة والبراعة في رسم التعابير، والتلاعب بالألوان وتوظيفها بصورة أكثر اختلافاً.
خلفية
ورد في العديد من المراجع والمخطوطات الفنية روايات مختلفة حول حقيقة النموذج في اللوحة، أو الشاب الذي قام برسمه كاروتشي، إذ تشير إحدى تلك الروايات إلى أن ذلك الفتى هو كوزيمو دي ميديشي؛ أي هو من أفراد أسرة ميديشي، العريقة والمهتمة بالفنون والتي كانت قد رعت ودعمت موهبة هذا الفنان، والأبحاث تشير أن كوزيمو كان يبلغ 18 عاماً، يظهر في هذا العمل الفني كجندي بعد معركة «مونتيروسو»، وتوجد رواية ثانية، ففي كتالوج، معرض متحف فيلادلفيا لعام 2004، تظهر الصورة تحت عنوان «فرانشيسكو جواردي في دور المطرد»، وجاء في مقال لمؤرخ الفن فازاري: «في وقت حصار فلورنسا قام بونتورمو، برسم جواردي، في بدلة جندي، وكان ذلك عملاً رائعًا للغاية»، ولعل تلك الرواية صارت أكثر إقناعاً لمتحف جيتي.
ولعل الجدل حول تفاصيل اللوحة يؤكد ويشير إلى أن العمل قد وجد قبولاً وشهرة كبيرة، وصار من أجمل اللوحات العالمية وأغلاها، حيث تحتل (المطرد) مكانة خاصة ومرموقة، إذ تناولها الكثير من النقاد والمؤرخون الفنيون، وصدرت حولها العديد من المقالات الفنية، التي تناولتها وتحدثت عن الفنان الذي عبر عن أسلوبية وابتكارات فنية، كانت بمثابة منعطف إبداعي في عصر النهضة، حيث خرج عن الكثير من التقاليد الفنية، التي كانت سائدة ومعروفة حينها لمصلحة توجه جمالي جديد ومختلف، وذلك ما جعل لكاروتشي، مكانة متميزة بين الفنانين في مختلف العصور.
وصف
يظهر في مشهد اللوحة شاب أنيق يرتدي سترة خفيفة بأكمام واسعة مصنوعة من الحرير الثقيل، وقلنسوة حمراء ملتوية على رأسه و«المطرد»، في يده اليمنى، ونصل المطرد غير ظاهر من الجزء العلوي، بينما يضع يده اليسرى بشكل عرضي على الورك، ويقف الشاب أمام خلفية أحادية اللون تقريباً سوداء، ولا يمكن تمييز سوى الخطوط الباهتة لزاوية مبنى ضخم، فيما يرتدي الشاب سروالاً أحمر متصلاً بسترته برباطات شريطية، بحيث يبرز الملابس الداخلية المصنوعة من الحرير الأبيض الفاتح من أسفل الياقة القائمة والأساور، فيما جاءت السترة مربوطة بحزام جلدي ضيق يتدلى منه سيف استعراضي، ويرتدي الشاب سلسلة ذهبية طويلة حول رقبته وميدالية ذهبية، واللوحة بصورة عامة تظهر هيبة الفروسية والفرسان في عصر النهضة.