صدام الزيدي
17 عملًا دراميًا تابعها اليمنيون على شاشات قنواتهم التلفزيونية، وعبر منصات على شبكة الإنترنت، هي حصيلة دراما هذا الموسم في اليمن، البلد الذي ما زال في مخاض حرب طويلة تمتد منذ نحو عقد من الزمن، تغيرت بسببها ملامح الحياة، وتضاعفت هموم الإنسان الذي يكابد يوميات ثقيلة بين يأس وأمل وغربة ومحاولات دؤوبة للترفيه والابتعاد عن قلق الجوّ العام.
وينبغي الإشارة إلى أن سنوات الحرب هي ذاتها سنوات الانفتاح على شبكات التلفزة على نحو أوسع، حيث أفرز الصراع السياسي منصات تلفزة جديدة. ومع ذلك، تتنافس القنوات في كل موسم رمضاني على عرض ما في جعبتها من أعمال درامية أنجزتها جماعات فنية (ممولة مباشرة من قنوات تلفزيونية)، وشركات إنتاج، وألقت بها دفعة واحدة إلى ليالي السمر، وسجالات النقد والتحليل والمتابعة.
ومن بين أهم أعمال الدراما (الموسمية) لهذا العام في اليمن، نشير إلى المسلسلات التالية: “خروج نهائي/ قناة المهرية”؛ “ممر آمن/ قناة يمن شباب”؛ “دروب المرجلة/ قناة السعيدة”؛ “ماء الذهب/ منصة تلفزة على يوتيوب، ثم قناة المهرية”؛ “لقمة حلال/ قناة السعيدة”؛ “قرية الوعل/ قناة الجمهورية”. وثمة مسلسلات مثل: “العاقبة”؛ “على غيري”؛ “حارس البحر”؛ “غاغة مكس”؛ “الخال والولد”؛ “رجب وعجب”؛ “مفتاح ضايع”؛ “المدارة”؛ “قرص حار”؛ “ثروة أبي”؛ “فشفشي 3”.
فما الذي تغيّر في مضمون وأسلوب وتقنية الدراما اليمنية الراهنة عن سابقاتها؟ بمعنى، هل تكرر نفسها أم أن هنالك شغلًا مختلفًا؟ وهذا الكمّ الكبير من الأعمال هل صنع علاقة ودية مع الجمهور، أم أن نبرة السخط والانتقاد وعدم الرضى تزداد اتساعًا من موسم لآخر؟ وبما أن الحديث عن “موسمية الدراما في اليمن” ما زال مطروحًا، كيف يرى نقاد وأكاديميون يمنيون إلى واقع الدراما في بلدهم، وما هو المطلوب لتطويرها والارتقاء برسالتها؟
الهويّة اليمنية
يتحدث الباحث والأكاديمي، فيصل الدوحي، من خلال مشاهداته لدراما هذا الموسم في اليمن، عن “تطور ملحوظ في الجوانب الفنية والتقنية”، بما في ذلك الأماكن/ اللوكيشنات والإضاءة والموسيقى والديكور والمؤثرات الصوتية والبصرية والملابس، وحتى في الإخراج.
كما أن الهوية اليمنية محور اهتمام الدراما لهذا العام، ويمكن للمشاهد، بحسب الدودحي، أن يلاحظ ذلك بوضوح من خلال أسماء الأعمال المعروضة مثل “قرية الوعل”، وما تضمنته بقية الأعمال الدرامية من ديكورات تصويرية لمنحوتات وتماثيل الوعل، وخط المسند والمخطوطات التاريخية، وغيرها. الوعل، وخط المسند، رموز دينية وثقافية يمنية أصيلة، والحضور البارز لهذه الرموز جزء من حراك ثقافي أفرزته الحرب الأخيرة كما هو معلوم.
وغير بعيد، يلاحظ الدودحي، ما أسماه “حالة من الارتباك والتوهان في إبراز موضوعات الأعمال”، وهنا يستدرك في سياق حديثه لـ”ضفة ثالثة”: صحيح أن الأعمال الفانتازية ليست بالضرورة مقيدة بموضوع واضح ومحدد بشكل قاطع، لأنه يمكن أن تكون الفانتازيا مجرد استكشاف لعوالم غير مألوفة، لكن هنالك بعض الأعمال الفانتازية التي قد تتناول مواضيع محددة مثل الصراع بين الخير والشر، أو محاربة الظلم… إلخ.
ويضيف الدودحي: “يعاني تحديد الزمان والمكان في الأعمال الدرامية أيضًا من حالة من الارتباك”، فالأعمال الفانتازية ليست مقيّدة بزمان، أو مكان معين، ولكنها في الوقت نفسه لا يمكن أن تتنكر لكونها مستوحاة من عصور معينة، أو توجد في عوالم خيالية مستقبلية، أو موازية. خذ على سبيل المثال “هاري بوتر” للكاتبة ج. ك. رولينغ، و”سيد الخواتم” للكاتب ج. ر. ر. تولكين، في الأدب. وأفلام مثل “هاري بوتر”، و”سلسلة أفلام مارفل السينمائية” في السينما، ومسلسلات تلفزيونية مثل “صراع العروش”، و”سترينجر ثينغز” في التلفزيون، كلها واضحة المكان والزمان، وهي أعمال فانتازية في حبكتها الرئيسية والفرعية والتطورات التي تحدث خلال القصة.
ويلاحظ الدودحي، أيضًا، أن بعض الأعمال الدراميّة الفانتازية، شكّلت تحديًا فنيًا للمشاهد اليمني غير المعتاد على الأعمال الفانتازية، ولذلك “كان متشوشًا في فهم الزمان والمكان والموضوعات في هذه الأعمال”. أما “الحوار”، ففي كثير من الأحيان بدا منفلتًا ومسجوعًا ورتيبًا وآليًا، وهناك تداخل بين اللهجات العامية المختلفة والفصحى في المشهد الدرامي الواحد، بدلاً من اعتماد اللغة الوسطى التي تأخذ بمتوسط المعروف والمشهور لدى الأغلبية من اللهجات المحلية وتدمجها مع الفصيح. والسبب ـ في رأي الدودحي ـ يرجع إلى أن كثيرًا من القائمين على الأعمال الدرامية من الشباب المثقف بصريًا وتقنيًا كان قليل الخبرة في كتابة الحوار والسيناريو.
أزمة نص وأداء
الناقد والمترجم رياض حمادي، وإثر مشاهداته لحلقات عدة من مسلسلات “قرية الوعل”، و”ممر آمن”، و”ماء الذهب”، وبضعة مقتطفات من مسلسلات أخرى، يلاحظ تطورًا في التقنية: التصوير والموسيقى التصويرية، لكنه يجزم في حديثه لـ”ضفة ثالثة”، أن هنالك أزمة حقيقية تتمثل في “أزمة نص”: قصة وسيناريو وحوار، وبالتالي أزمة مواضيع، ثم “أزمة أداء”: أداء مبالغ فيه، واختيارات غير مناسبة للممثلين، وغياب وجوه جديدة.
ويعتقد حمادي أن جمهورًا (محلّيًا) واسعًا يتابع الدراما اليمنية: قاعدة الجمهور تتسع، بعضهم ناقد حصيف ويتابع بشغف ما يعرض، ويواكب ما يشاهده بملاحظاته النقدية، من وجهة نظره كمشاهد، وله الحق في ذلك. كما أن الشركات المنتجة يبدو أنها تسعى لإرضاء الجمهور، لكنها تبتعد عن المواضيع التي تمسه. لذلك أغلب المسلسلات تتهرب من المدينة والبيوت الحقيقية إلى قرى وبيوت غريبة لا روح فيها، مثل قرية الوعل، وقرية ماء الذهب. لكن ـ حمادي ـ يستدرك في هذا السياق بالقول: إرضاء الجمهور غاية تدرك، لكن الرقابات المختلفة، وغياب النصوص الذكية، تحول دون تحقيق هذه الغاية.
ويشدد حمادي على أن المسؤولية مشتركة بين مؤسسات الدولة المعنية بهذا القطاع وشركات الإنتاج الخاصة، وأيضًا كُتاب الدراما. ومبررًا موسمية هذه الدراما، يذهب حمادي إلى القول إن الدراما في اليمن لم تتحول بعد إلى صناعة، ولذلك تكتفي الشركات المنتجة بموسم رمضان فقط: لا توجد لدينا لا معاهد متخصصة في التمثيل، والإخراج، والتصوير، والمونتاج… ولا منح في هذه المجالات، فمن المنطقي ألا نرى تطورًا مذهلًا في الدراما. ويبدو أيضًا أن صناع الدراما لا يولون الملاحظات النقدية الاهتمام. لذلك لا يحصل تراكم معرفي، واستفادة من الخبرات. والدراما اليمنية لا تضع في حسبانها السوق العربية، ومن لا ينافس الأفضل لن يتطور.
“توصف الدراما بأنها بلا تاريخ، مقارنة بالسينما. ومشكلة الدراما بشكل عام أنها سلعة، وليست فنًا في الدرجة الأولى”- يتابع حمادي، ويضيف: لذلك تخضع لقاعدة العرض والطلب والدعاية والإعلان. هذه القاعدة هي التي أخرجت لنا 17 عملًا دراميًا، لكن هذه الشركات لن تدعم السينما مثلًا. لا توجد لدينا سينما؛ لأنه لا توجد شركة تؤمن بالفن والتاريخ.
ومستدركًا ينوه حمادي أن اليمنيين في طور “البحث عن دولة”، ووسط هذه الدولة الغائبة لا تبقى سوى مؤسسات ووزرات هزيلة لا يؤرقها الصالح العام، ولا الارتقاء بالفنون والآداب، والقائمون عليها ليست لديهم مشاريع ورؤى. كل ما نقرأه أو نشاهده هي جهود فردية تثبت أن اليمن بخير إذا ما وجدت هذه الجهود القليلة الظاهرة والمواهب التي لا تزال مدفونة من يدعمها.
غياب صناعة الجمال!
من جهته يوصّف الأكاديمي إبراهيم الهجري راهن الدراما في اليمن في خانة “الواقع المزدوج بين الصدق والتزييف”، مستهلًا بالقول إن هذه الدراما هي جزء لا يتجزأ من التراث الثقافي والفني للبلاد، فهي مرآة تعكس جوانب مختلفة من المجتمع والثقافة اليمنية. وتتنوع أعمال الدرامية اليمنية في جودتها وتقديمها للصورة المطلوبة للواقع، فبينما تُظهر بعض الأعمال صورة واقعية للمجتمع اليمني، تركِّز على قضاياه ومشاكله بشكل صادق وموضوعي، نجد أن بعض الأعمال الأخرى “تعتمد المبالغة، ربما، أو تقدم صورة مشوّهة للمجتمع اليمني”.
ووفقًا للهجري، تواجه الدراما اليمنية بعض التحديات، ويذكر منها ما يلي:
“إشكالية اللهجة اليمنية”: قد تُشكل عائقًا أمام بعض المشاهدين العرب الذين لا يملكون خلفية كافية في هذا الصدد؛ “ضعف الإنتاج”: قلة الإنتاج بسبب قلة الميزانيات، مما يُؤثّر سلبًا على جودة الأعمال؛ “سيطرة القنوات الفضائية”: تفرض القنوات شروطها على شركات الإنتاج، مما يُؤدّي إلى اختصار التكاليف والاعتماد على عناصر غير احترافية أحيانًا، و”ضعف النص، والتطويل والحشو الممل وغير المفيد”.
وتُثير الدراما اليمنية تساؤلاتٍ كثيرة، يتابع الهجري حديثه لـ”ضفة ثالثة”، خاصةً خلال شهر رمضان المبارك، حول مدى صدقها في عكس واقع المجتمع اليمني. فبينما يرى البعض أن بعض الأعمال تقدّم صورة واقعية للمجتمع، يرى آخرون أن بعض الأعمال تُقدم صورة مشوهة، أو مُبالغًا فيها. ومع ذلك، هنالك بعض الأعمال التي حققت نجاحًا كبيرًا، مثل مسلسل “ماء الذهب”، و”دروب المرجلة”، و”قرية الوعل”، رغم وجود بعض الأخطاء.
وختامًا، يؤكد الهجري، على أهمية الجمال والتعبير عن العاطفة في الأعمال الدرامية: مهمة الفن هي مخاطبة العاطفة، وليس تقديم الحلول للمشاكل. الفن صناعة جمالية. ومن يدخل إلى الفن من البوابة السياسية (حتمًا) سيُهمل الجانب الجمالي ويُركز على الرسائل السياسية فقط.
قيود سياسية ودينية
من ناحيته يكشف الشاعر والأكاديمي المتخصص في الأدب والنقد، محمود مشرح، أن الأعمال الدرامية اليمنية، بشكل عام “مقيدة بالعديد من القيود السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية”: لا تعرض الواقع أو تناقش هموم المجتمع بالشكل المطلوب، وإن تطرقت لذلك فعلى استحياء؛ خشيةً من التصادم مع هذا الطرف، أو ذاك.
ويلفت مشرح، في حديثه لـ”ضفة ثالثة”، الانتباه إلى أن الدراما اليمنية هذا العام تميزت بتعدد الأعمال، وظهور وجوه جديدة، والابتعاد عن الكوميديا والهزل ـ في الغالب ـ كما كان مألوفًا سابقًا، لكن كثيرًا من الممثلين لم يتمكنوا من التعامل مع الأدوار الجديدة، وما زالت شخصية الدور الأول مسيطرة عليهم، سوى البعض الذين تمكنوا من كسر هذا القيد، أمثال عامر البوصي، ونبيل الآنسي، ونجيبة عبد الله.
وإذا ما أرادت شركات الإنتاج إنجاز أعمال منافسة عربيًا، فإنها تحتاج، وفقًا لمشرح، إلى كسر القيود، وتمديد فترة الإنتاج، ليتسنى معالجة الأخطاء وتجاوز عامل الوقت، فـ”الطبخات السريعة لا تجدي مع الأعمال الدرامية الجادة”، على حد تعبيره
ويجد مشرح أن كثرة الأعمال أتاحت للمشاهد فرصة الاختيار، وهو ما جعل بعض الأعمال تحصد العدد الأكبر من المشاهدات. ولذلك انقسم المشاهدون بين راضٍ وساخط ومناصر ومعارض، وهي حالة صحية وإيجابية سيكون لها أثرها فيما سيُنتج مستقبلًا. غير أن الملاحظ هو تكرر إنتاج أعمال للمشاهد اليمني فقط، وتجاهل المشاهد العربي، سواء في هذا العام، أم في الأعوام السابقة، فهل تخشى الدراما اليمنية الإقدام على هذه الخطوة، وترى أنها غير قادرة على المنافسة؟، يتساءل مشرح.
أما مسؤولية النهوض بالدراما اليمنية فهي مشتركة بين أطراف عدة، يتابع مشرح، أبرزها وزارة الثقافة، ووزارة الإعلام، من جهة، والإعلام الخاص وشركات الإنتاج، من جهة أخرى، كما لا ننسى دور رأس المال الراعي لهذه الأعمال. كذلك تحتاج شركات الإنتاج إلى التسويق لأعمالها عربيًا، عن طريق إنتاج أعمال للمشاهد العربي بشكل عام، وليس للمشاهد اليمني فحسب، وخلق نقاط تواصل مع قنوات عربية، ويكون ذلك بالتعاون مع وزارة الثقافة للتسويق لذلك، ومع رعاة خارجيين، ولا يمنع ذلك الاستعانة بخبرات خارجية، سواءً بممثلين، أم مخرجين، أم منتجين ورعاة، وغيرهم.
وبشأن وفرة الإنتاج مقارنة بما سبق، يشير مشرح إلى “تطور ملحوظ”، سواء كان ذلك في اختيار الشخصيات، أم الإخراج، أم المواضيع المتناولة، لكنه يستدرك هنا تحديدًا: هذا التطور ما زال في خطواته الأولى مقارنةً بالدراما العربية، كالمصرية، أو السورية، أو غيرهما.
ويؤكد مشرح أن المشاهد اليمني اليوم- في ظل تعدد الأعمال، وكثرة القنوات ـ يمتلك القدرة على التقييم والمقارنة وتمييز الجيد من الرديء من الأعمال، ولذلك نرى اهتمامه ببعض الأعمال دون الأخرى، كمسلسل “قرية الوعل”، أو “ممر آمن”، أو “ماء الذهب”، أو “دروب المرجلة”. وهذه ـ من وجهة نظر مشرح ـ هي أبرز الأعمال لهذا العام، وكثر حولها الحديث في وسائل التواصل الاجتماعي.
نقلا عن موقع “ضفة ثالثة”