قدم الفنان الأوكراني إيفان كونستانتينوفيتش آيفازوفسكي، «1817 – 1900»، وهو من أصول أرمنية، العديد من الممارسات الفنية الراقية التي تدل على براعة كبيرة في تصوير الطبيعة والتعبير عن المشاعر البشرية في شتى أحوالها، الأمر الذي أكسب الرسام شهرة عالمية، إذ يعد على نطاق واسع، من أعظم الرسامين في مجال الطبيعية إذ أبدع وبرع في التعامل مع مفرداتها المختلفة، كما أنه من الرسامين أصحاب الثقافة الكبيرة والمواهب المتعددة، فقد علمه والده الموسيقى وعزف الكمان، كما أتقن لغات مختلفة، وله العديد من الأعمال الفنية الخالدة ربما من أشهرها «الموجة التاسعة»، وقد قيل: إن أعمال هذا الفنان بلغت أكثر من 6 آلاف لوحة وعمل فني.
ولعل موهبة آيفازوفسكي، التي ظهرت في وقت مبكر في مجال الرسم والتعامل مع الألوان، أهلته لكسب منحة للالتحاق بأكاديمية الفنون الروسية، حيث درس فيها رسم المناظر الطبيعية في عام 1833، وقد حصل منها على ميدالية، لتبدأ رحلة الفنان مع التطور تأخذ منعطفاً جديداً، تعلم من خلالها الكثير من التقنيات الجديدة، وكان آيفازوفسكي معاصراً لانبثاق عصر النهضة الروسي بعد انتهاء الحرب النابليونية، والذي شهد ولادة الكثير من الأسماء اللامعة في ميادين الثقافة والموسيقى والأدب مثل: بوشكين وغوغول وليرمينتوف وميخائيل غلينكا وغيرهم من المبدعين الذي لمعوا في ذلك الوقت في روسيا وأوكرانيا.
*أيقونة
تعد لوحة «العاصفة على البحر في الليل»، أو «العاصفة البحرية الليلية»، من أشهر لوحات آيفازوفسكي، وقام برسمها في عام 1849، وهي تنتمي إلى عوالمه المفضلة في مجال الطبيعة، خاصة البحر، فقد تميز هذا الفنان بالتعبير عن البحار والمحيطات وعالمها الغريب الذي يلفه الغموض، لذلك كان ذلك الموضوع أو تلك السمة الرئيسية في رسوماته، فأغلب إنجازاته الفنية تناولت مياه البحار في مختلف أحوالها من هدوء قاتل إلى صخب مدمر ومرعب، ليأخذ المشاهد في رحلة محفوفة بالجمال ومترعة بالدهشة لاكتشاف المحيطات، وما تحفل بها من حكايات وأسرار وأساطير وعجائب، فالفنان آيفازوفسكي هنا، يستنطق البحر ليجعله يقص على الناظر حكاياته المختلفة، وقد عمل الفنان على رصد الكثير من الأحداث التي جرت في البحر، لذلك فإن العديد من لوحاته تعبر عن وقائع حقيقية، فيما تسرد لوحاته الأخرى تفاصيل مختلقة من وحي خيال فنان جامح وجميل، وهذه اللوحة «عاصفة ليلية على البحر»، هي من الأعمال التي ترصد لحظة خاصة في عرض البحر.
* وصف
في مشهد اللوحة، تظهر سفينة في عرض البحر في توقيت ليلي، الظلام المرعب يغطي الأفق، بينما السفينة الشراعية في صراع مع الأمواج العاتية المزمجرة التي تكاد تعصف بها، وتبدو السفينة وهي في تلك الحالة كنقطة صغيرة في فضاء غير محدود، وثمّ قمر بعيد يرسل خيوطاً من الضوء بلون ذهبي تنعكس على صفحة الماء ليظهر للناظر حجم الصراع الكبير بين الأمواج والسفينة، هذا القمر يكاد يختنق ليخفت ضوؤه بفعل السحب الضخمة المتنقلة التي تحاصره من كل اتجاه، وربما أن الفنان أراد أن يعقد مقارنة وتشبيها بين مشهدين الأول هو القمر الذي يغالب السحب التي حوله ويريد الإفلات منها، والثاني هو مشهد السفينة في صراعها المخيف مع الأمواج.
* تفاصيل
ويظهر على سطح السفينة كائنات يبدو أنهم البحارة وهم في جهد متواصل من أجل التغلب على العاصفة والخروج إلى بر الأمان، حيث يبدون أمام الناظر في شكل ظلال بعيدة، فيكاد المشاهد أن يسمع حركة البحارة وصراخهم المكتوم، وهم يحاولون أن يحافظوا على السفينة في مسارها الصحيح وتثبيت الأشرعة والصاري الخشبي، فقد أراد الفنان للمشاهد أن يكمل اللوحة عبر فضاء تأملي يتخيل فيه حال البحارة داخل السفينة.
تكمن براعة آيفازوفسكي، في توظيف الألوان بطريقة مذهلة، فالظلال تبدو ككتلة مظلمة مخيفة تشير إلى قوة العاصفة، وكذلك الحال مع الأضواء والألوان في درجاتها المختلفة، كما تبدو الأمواج مزمجرة وغاضبة، ولا عجب فقد اشتهر الفنان باستخدام وتوظيف لعبة الضوء والظلال، خاصة في هذه اللوحة، بصورة متقنة وكأنها حية، حيث استطاع أن يرصد هذا الصراع الذي جرى في الطبيعة بشكل مميز.
رسمت اللوحة بألوان الزيت على القماش، وقد تناولها الكثير من النقاد إلى جانب أعمال أخرى للفنان، إذ اعتبرت من النوادر الفنية الرائعة في محاكاة الطبيعة بطريقة مبتكرة.